لا يوجد يوم جيّد للفراق #قصة





كان هناك شوقا غير مفهوم عندما جلستْ على مقعدها أمامي. لكني توصلت في لحظة ما إلى أن الشوق ربما يأتي من معرفتنا بأنها المرة الأخيرة.
كانت الطاولة بجوار شباك زجاجي كبير. في الشارع، خلف الزجاج، كان هناك حياة وفي المطعم كان الموت يتسلل ببطئ مثل بخار الطعام القائم أمامنا. لم يتحدث أي منا، مجرد محاولات لمضغ الطعام واستهلاك دقائق من الزمن يتم وصفها فيما بعد بمحاولة لم يُكتب لها النجاح.

كلما أردت الانتصار على الصمت الذي يشاركنا الطعام، هربت بنظري إلى الشارع خلف الشباك الزجاجي. قطرات المطر تغسل المباني في همّة ثم تتساقط، بعد أن تفقد عنفوانها، في سكينة جسد يحتضر دون صخب. اشتدت الريح قليلا لتحمل المطر في الهواء قبل أن يصل إلى الأرض وتصنع منه موجات مستديرة. ربما كان الجو الجنائزي بالخارج هو امتداد للموت الذي نتنفسه داخل المطعم، ولكنني نفيت هذا الاستنتاج الساذج في الحال. السماء حيادية لا تشرق شمسها لأفراحنا ولا تُغيم سُحبها لأحزاننا. نحن الأغبياء، نفسر الطبيعة طبقا لأهواء قلوبنا.

قامت من مقعدها بعد أن شخبطت هذه الدقائق في دفاتر العشاق. بكل هدوء، بدأت في لمّ  شعرها للخلف، ومع خصلات شعرها الأسود الطويل، كانت  تُلملم بقايا الزمن وكل ما كان لها هنا، كانت مُصممة ألا تترك خلفها شيئًا لي أتذكرها به.

نظرت إليّ وهي واقفة وأنا جالس مكاني في مظهر المذنب. بدت عملاقة، رغم قِصر قامتها الذي أحبه فيها. أغلقت عيونها الواسعة لثواني لتحتفظ بصورتي وأنا جالس أمامها على مقعد البؤس في انهزام. بالتأكيد سوف تُلقي بصورتي هذه في منطقة غير مؤهلة بالحياة في ذاكرتها التي لا تعرف الصفح أو النسيان. لم أتحرك. اخذت حقيبتها ومظلّة المطر وذهبت. لن تعود أبدًا بعد هذه الليلة.

كان المطر في النهايات عندما ظهر متشرد في الشارع في يده ساندوتش يريد أن يبيعه. يأكل منه جزءا ويقوم بعرض الباقي منه على المارة الذين تأففوا ونهروه وهم يتفادون المطر في استعجال.

تابعت النظر للمتشرد، كلانا يحاول عقد صفقة رابحة بشروط مستحيلة. حاولت حينها استحضار فكرة لامعة وحزينة تناسب حالة الفقدان التي تمت منذ دقائق أو على الأقل تُشعرني بأن كل شيء سيكون على مايرام ولكن شيئًا لم يحدث!
دفعت حساب المطعم وذهبت. طبعًا لم أُفكر في احضار مظلة للمطر وكان هذا النسيان تجسيدا ثلاثي الأبعاد لعلاقتنا: هي تخطط وتحسب كل خطوة. كل فعل وكل شيء هو معادلة متساوية الأطراف فيها ربح وخسارة؟ أما أنا فقد نسيت حتى أن أحضرالجاكتب في أسوأ ليالي نيويورك شتاءا

دفعت للمتشرد دولارين وأخذت منه الساندوتش وجعلته الرابح الوحيد في ليلةٍ كلها خسائر. على عتبات المترو وجدت متشرد آخر يستجدي مالًا. تركت له بقايا الساندوتش وركبت أول مترو قادم دون جهة محددة.

جلستُ على أحد المقاعد مُبللًا مثل عصفور خرج لتوّه من بحر الوحل. ثبتُ نظري على قطرات الماء وهي تتساقط من جسدي على أرض المترو ومع كل قطرة مطر تسقط، كان يسقط معها أشياء كثيرة لن تعود.  قطع خلوتي مع تعداد قطرات المطر صوت فتاة كانت تجلس على المقعد المقابل. لم الاحظ جمالها عندما دخلت العربة. قالت:
- يا له من يومٍ سيئ
اتفقت معها :
- نعم إنه يوم سيئ
ثم أكملت الجملة لنفسي بصوت خفيض:
- إنه يوم سيئ للفراق
سألتني:
- ماذا قلت؟ لم أسمعك
أعدت عليها ما قلته بصوتٍ عالٍ كاد ينتصر على صوت عجلات القطار وهي تضرب القضبان:
- إنه يوم سيئ للفراق
ضحكت وهي تُلملك أشياءها استعدادا للنزول في المحطة القادمة:
- لا يوجد يوم جيد لتلك الأشياء. مساءك سعيد

الحكاية الحقيقية

لكن الحكاية، الحكاية الحقيقية، لا يعرفها أحد. هي بسيطة وقاسية ويجب أن تثير ضحكنا، ربما تقتلنا من الضحك  لكننا نعرف البكاء فقط، الشيء الوحيد الذي نفعله باقتناع هو البكاء.

- روبرتو بولانيو، ليل تشيلي
٢٠١٤