" وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا"

(1)
دخل الأستاذ سعد حصة التربيه الدينيه فى السابعه صباحاً فى المدرسة الإبتدائيه التى يعمل بها منذ قديم الأزل. يسيطر الإكتئاب على وجهه الأبيض المستدير المائل الى الحُمره. لم يبتسم الرجل يوماً فى حياته و لم تر البشاشه لروحه سبيلاً. تقول الأسطوره بأن قد سُمع له ضحكه عاليه فى حجرة المُدرسين و لكن لا يوجد دليل مادى واحد على وقوع حدث بمثل هذه الأهميه. يرتدى الأستاذ نفس البدله البُنيه فوق قميص يصعب تحديد لونه الحقيقى. البعض يقول أنه أبيض، و هناك رأى آخر يقترح بأن القميص كان أبيضاً بالفعل و لكنه تحول الى الأصفر بفعل العرق  و الأتربه و السنين. أغلق الزرار الأخير للقميص ليخفى  عُنقة العريض. قص شعرة الاصفر كجندى مقاتل فى الجيش النازى الألمانى . تخفى نظارة سميكه عينيه الزرقاء و نظراتهما الثاقبه كنمر غاضب ينتظر فريسة ليلتهمها.
(2)
لم يتزوج الأستاذ سعد رغم طعونه فى السن، لم يحب أو يعشق. بل لم يكن إنسان. كان يعيش مع والدته فى بيت أثرى قديم تحيطه الأشجار من كل جانب وتخفى معالمه المعماريه تكعيبه عنب عجوز. كانت عائلته غنيه ولكن كان هو من فرعها الفقير. كل ما يملك هو المنزل القديم الذى لو أختار أن يبيعه لقبض ثمنه ملايين الجنيهات. و لكن كيف للتاريخ و الأثر أن يُقدر بمال. كثرت الأقاويل عن منزل الأستاذ سعد و عن والدته التى لم يراها أحداً فقيل فيها أنها جنية أو عروس للبحر و لذلك ورث عنها الأستاذ شكله الأجنبى و ملامحه الغربيه. لم يدخل ضيف أو زائر منزل الأستاذ سعد ليجزم ما بداخله أو  ليلقى الضوء على حقيقة والدته. أهى حقاً من الإنس أم من الجان؟
هناك قصه تقول بأن الأستاذ سعد نسى خرزانته الشهيره فى المنزل يوما ما، وأرسل أحد التلاميذ لإحضارها و عندما طرق هذا التلميذ باب المنزل، فُتح من نفسه. وعندما دخل التلميذ وجد تمثال بُرنزى عملاق يتوسط حديقة المنزل. لم يستطع التلميذ تحديد ما هو الكائن المصنوع له هذا التمثال الذى كانت تقف ورائه أمرأه غاضبة المنظر تشبه الأستاذ سعد تماماً وفى يدها الخرزانه. أصاب هذا التلميذ من الرعب ما أصابه و لم ينطق بحرف واحد بعد هذا اليوم و إنقطع عن المدرسه بعد أن أصابه الخرس
(3)
لم يكن الأستاذ سعد مدرساً للتربيه الدينيه، بل كان مدرساً للدراسات الإجتماعيه و التاريخ و لكنه كان دائم التطوع لسداد غياب مدرسى الدين و العلوم والرياضيات و اللغه العربيه. الحق يُقال بأن الرجل كان مدرسه جامعه متكامله بمفرده. فهو من يقود طابور الصباح و يتأكد بنفسه من أن أظافر جميع التلاميذ نظيفه و أن شعر رؤسهم قصير و خالى من القمل و البراغيث و جميع الأمراض المُعديه. كان يتأكد أن علم الجمهوريه له إحترامه وقُدسيته أثناء التحيه فى طابور الصباح. وكم إشتكى جيران المدرسه من ميكرفون طابور الصباح و خصوصاً عندما يبدأ فريق الخطابه بقيادة الأستاذ سعد بقراءة النشره الإخباريه و إلقاء بعض الخُطب و الأناشيد أو الأغانى و أحياناً بعض الآيات القرآنيه.
و كم من حروب قامت بسبب فريق المدرسه لكرة القدم بقيادة الأستاذ سعد الذى لم يعرف للهزيمه عنوان و لم  يحترم يوماً قرارات الحكام أو التفكير لحظه بأن هؤلاء أطفال يلعبون الكره على سبيل المزاح أو الترفيه. تم إلغاء فريق الكره من المدرسه بقرار من مدير الإدارة التعليميه بعد أن تقدمت العديد من المدارس الأخرى بشكوى الأستاذ سعد خوفاً على أرواح التلاميذ و المدرسين معاً.
(4)
وضع الأستاذ سعد نظارته على مكتب الفصل بالتوازى مع الخرزانه التى لا تفارقه فقيل عنها أنها صديقته و عشيقته و الصاحبة فى السفر و الخليفة فى الأهل. كتب بخط عريض على السبوره " آيات من سورة المُجادله ". لم يعرف التلاميذ ما هى سورة المجادله. وظنّوا أنها لم تكن موجوده فى الكتاب المدرسى. و لكن رد الأستاذ سعد على تلك الظنون كان كالسهم الصائب. فبرغم أنه لا يقوم بتدريس التربية الدينيه بإنتظام إلا أنه كان يقوم بقراءة جميع المقررات الدراسيه و كان يرسل للوزارة إعتراضه على بعض ما تحويه من مخالفات تاريخيه او دينيه. أمرهم بفتح الكتاب عند الصفحه رقم 120، وهنا ظهرت آلاء الرعب على الوجوه الطفوليه ، لم يتوقع أى منهم أن يذهبو الى تلك الصفحه البعيده. هبط الصمت على الفصل، و لم يُسمع غير صوت تقليب الصفحات بحثاً عن رقم 120. بدأ الأستاذ سعد فى القراءه بصوت جهور : بسم الله الرحمن الرحيم :  "  وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا" و بدأ التلاميذ فى ترديد الآيات التى يقرأها الأستاذ سعد فى صوت عالى مسموع يبعث نشاطاً غير مألوف فى هذا الوقت من صباح اليوم الدراسى.

(5)
و كعادة الأستاذ سعد فى إتمام أعماله و مهماته على أحسن وجه، بدأ يطلب من كل تلميذ أن يقرأ الآيات بمفرده حتى يتأكد الرجل أنهم قد عرفوا مواقع الإعراب و مخارج الحروف. بدأ كل تلميذ يأخذ دوره فى القرآه وسط تعليمات و توجيهات الأستاذ سعد المستمره بأن هنا ضمه وهناك فتحه وكسره ووجوب التوقف عند السكون، وتعطيش بعض الحروف عندما وجب و لزم. كانت الأمور تسير بسلاسه مياه النهر عند منبعه حتى أتى الدور على التلميذ عادل الحلو الذى كان يعانى من لدغة ما تسببت فى صعوبه نطق بعض الحروف
بدأ عادل قارئاً : بسم الله الرحمن الرحيم: " و اذا قيل لكم إنسجوا فإنسجوا"  وتهبط الصفعة الأولى على وجه عادل لتقطع الصمت الذى إحتل أجواء الفصل لفترة طويله
يصرخ الأستاذ سعد من أعماقه : إنسجوا ايه يا كلب هو كان فى هناك نسيج وسجاجيد؟ ولاّ تكون مفكر نفسك فى النساجون الشرقيون. قول ورايا : " إنشزوا"
عادل : إنسجوا
 إنشزوا"
انسجوا
إنشزوا
إنسجوا
غضب الأستاذ سعد و خلع جاكت البدله ليشكف الستار عن السر الذى طالما كان سبباً فى حيرة المدرسه لسنوات: الا و هو لون القميص الحقيقى. تأكد الجميع بأن لون القميص الحقيقى كان فعلاً أبيض نظرا لأن مؤخرته أفتح فى اللون من مقدمته عدة درجات.
تهبط صفعة أخرى لكن هذه المره على قفا عادل مع صرخات متتاليه من الأستاذ سعد : إنشزوا إنشزوا إنشزوا إنشزوا
ويرد عادل باكياً : إنسجوا إنسجوا إنسجوا إنسجوا
(6)
و هنا كان ميعاد اللحظه الحاسمه التى غيرّت تاريخ المدرسه بلا رجعه. مع صرخات الأستاذ سعد و بكاء عادل، وقف تلميذ متفوق إسمه عوض و تقدم حيث يجلس عادل و يقف الأستاذ سعد. و خاطب عوض عادل قائلاً : قول ورايا يا عادل بس ما تخافش
عوض: إنش
عادل قارئاً خلف عوض : إنش
عوض : زا – زى – زو
عادل : زا – زى – زو
عوض: زو – زو
عادل : زو – زو
عوض: إنشزوا
عادل : إنشزوا
عوض:" و إذا قيل لكم إنشزوا فأنشزوا"
عادل : " و إذا قيل لكم إنشزوا فإنشزوا"
قرأ عادل الآيه كامله ببساطه وسهوله الشيخ عبد الباسط عبد الصمد عندما يقرأ قرآن الفجر. نظر عوض إلى الأستاذ سعد نظرة الفارس المنتصر وعاد إلى مجلسه و كأن شئ لم يكن ! وكأنه لم يهدم أسطورة الأستاذ سعد أو يزلزل الأرض الثابته من تحت قدميه
لم يع الأستاذ سعد ولا التلاميذ ما قد فعله عوض منذ لحظات، بل لم يع عوض نفسه أنه كتب بفعلته هذه فصل جديد من فصول حياة الأستاذ سعد.
صمت آخر من نوع جديده هذه المره ملأ هواء الفصل و المدرسه بل المدينه بل الكون كله. لم يقطع هذا الصمت سوى خطوات الأستاذ سعد المُرتعشه مغادراً الفصل تاركاً ورائه الجاكت والخرزانه والنظاره. بل ترك تاريخه و كل ما قد بناه لسنوات. نظر الأستاذ إلى التلاميذ نظرة الوداع و خرج ولم يعد مره أخرى.

No comments: