فقيه الطغيان


وجد دائما تطرف باسم الدين يصادر الحقيقة ويشرّع الإستبداد. وهو يفرض الرأى الأوحد والسلطان الذى لا شريك له، ويحرم المشاركة سواء فى العلم أو فى السطلة. وهو تطرف محتكر للمعرفة، يدّعى أنه الناطق الأوحد باسم الدين. لقد وجد دائما ليحتل الساحة العامة فى كثير من الصخب والعنف. ويكفى أن نضرب مثلا له، هو القاضى النعمان بن محمد ، العقائدى الأكبر لدولة الفاطميين. قد يقال أن هذا مثال متطرف ، ومن عهد مضى، إلا أنه لم ينقرض، فمازال هذا الصنف من المتطرفين يظهر من حين لآخر وقد عاد الآن ليحتل الساحة العامة وليحاول من جديد مصادرة الحقيقة بالعنف، ورد السياسة إلى الإستبداد.
القاضى النعمان ظاهرة قد توجد أيضا فى كل تطرف دينى، حين يحرم على الناس المشاركة فى صنع الحقيقة والسلطه. يصادر منهم الحق فى الإختلاف. له وحده الحق فى أن يخالفهم، وليس لهم أى حق فى إبداء رأى مخالف له.
كتب القاضى النعمان هو أيضا فى موضوع " الإختلاف" .فما هو الإختلاف فى شريعته؟ إنه بإختصار اختلاف الآخرين لما يعتقده هو وأصحاب معتقده، أما هو، فلا ينطبق اسم " الاختلاف" عليه إذ إنه فى مركز إصدار الحقيقة.
القاضى النعمان- ومن حذا حذوه من المتطرفين القدماء والجدد- يأمر الناس بإبطال عقولهم وتعطيل إرادتهم، فليس مطلوباً منهم سوى طاعة "ولى الأمر". وهنا يستعرض القاضى الفذلكة التاريخية المعروفة ليحولها فى إتجاهه: منذ البدء، كا ثمة اتفاق وإجماع، ثم انفرض العقد وحل الشقاق. طبعا غيره قال مثل هذا الكلام. وهو يضيف روايته كشيعى لما يراه السبب فى وقوع الاختلاف: وهو انتقال السلطه الى غير " ولى الأمر" أى إلى غير على بن أبى طالب أولا، ثم إلى غير ذريته ( حسب التسلسل الذى تأخذ به كل فرقة من فرق الشيعة) والسلطة هنا علمية وسياسية معاً، يقول: " ول سلمو لولى الأمر وأخذوا عنه، لما اختلف منهم اثنان فى دين الله".
ثم يأتى القاضى بمسلمة دينية أخرى وهى أن الإسلام قد إكتمل. طبعا كل المسلمين يتفقون معه فى ذلك مع اختلاف عميق فيما يترتب على هذا التسليم. فغيره مع تسليمهم بأن دين الله قد إكتمل، إلا أنهم مع ذلك أفسحوا مجالا لإعمال "الرأى" فى أمور الدين، وإستعملو "القياس" و "الإجماع" و "الإستحسان" واعتبروها اصولا تشريعية بعد القرآن والسنة. لكن القاضى النعمان قد أبطل هذه الأمور. وهو يقول إن الدين قد إكتمل العلم به، لكن عند "ولى أمره" أى إمامه "المعصوم" المالك وحده دون سائر الناس للعلم الكامل، والذى هو وحده العليم بأسراره، والمالك الأوحد أيضا للسلطة لا شريك له فيها. هو الوارث الوحيد للعلم والحكم. بل هو قد حرم على عموم المسلمين أن يستنبطوا مباشرة من القرآن والسنة، بعد أن أصبح " ولى الأمر" هو الاوارث الوحيد للعلم الكامل وللحكم المنطق. ينبغى إعلاق العقول وتسليم مفاتيجها إلى "الإمام" وشل الإرادة الفردية والعامة. فالإمام وحده هو المريد! ويدّعى القاضى أن الله هو الذى أمر عباده بذلك، وأنه " من بعد الرسول" وجب عليهم رد " أمرهم" إلى ولى الأمر كما جل ذكره.
القاضى هو أيضا يقول إن الإختلاف أنهاه الإجماع. إلا أن الإجماع عنده هو الخضوع لسلطان ولى الأمر  وما عدا ذلك من تعدد فى الرأى وحق فى الإجتهاد فهو خروج على الشرعية " العملية السياسية" والقابلون- أو الخاضعون- لسلطان الإمام وولى الأمر هم الذين يستحقون عند القاضى إسم "الجماعة الإسلامية"، وسواهم خارجون على الشرع والشرعية، وأنه لا يقع اسم الجماعة بعده" أى بعد الرسول" إلا على من إجتمع على طاعة الإمام وكل جماعة تخرج عن طاعة الإمام لا يقع عليها إسم الجماعة المسلمة.
النعمان فى ذمة التاريخ. إلا أن أمثال النعمان عادو ليحتلوا الساحة ويروجوا للطغيان نفسه، طغيان الرأى الواحج والسلطان المطلق، وكل ذلك باسم الدين. حين تقوم أية جماعة اليوم لتدعى أنها وحدها الناطق الرسمى باسم الدين، وأنها بذلك تملك الحقيقة، والقول الفصل فى كل شئ، وأن عندها القتوى النهائية فى قضية نظام المجتمع والسياسة فهى إنما تكرر موقف القاضى النعمان.
على أومليل - فى شرعية الاختلاف


No comments: