أستاذتي سعاد

نُشرت فى ثقافة True 
(1)
قالت لي: العُشاق يكرهون الصور. الصور عند الفراق هى دليل على التعاسة وفشل التجارب حتى أننا نضحك كذبًا فى جميع الصور لرسم سعادة غير موجودة.
ثم رحلت..
نظرت حولي وتأكدت أني أحب الصور رغم كل ما قيل على أن الرواة يكرهون الصور تمجيدًا  لصدق الكلمات. هناك صور عديدة لا تفارقني.
(2)
 وقعت عينى على صورة لي مع فريق الإذاعة المدرسية فى المرحلة الإعدادية التقطت يوم عيد ميلادي. لا أتذكر اسماء كل الأعضاء و لا أنسى الكثير. التقط الصورة الأستاذ يحيي مدرسة التربية الزراعية. كان نصف أعمى وله استوديو تصوير يربح منه بعد انتهاء اليوم الدراسي. كنت زعيمًا لفريق الإذاعة المدرسية، أكتب المحتوى ويقرأه أسامة منصور بصوته ذو البحة الإذاعية الجميلة. عندما قرروا تشكيل الإذاعة المدرسية قلت لهم أني أخشى الميكروفون ولكنى أحب الورق والأقلام. قالوا أرنا ماذا تستطيع أن تكتب. كتبت مقدمة عن عظمة ثورة يوليو أشعلت الحماسة فى قلوب الأساتذة الذين كان معظمهم من الأرياف يعشقون كل ما هو ناصري و يملكون الأرض ويحرثونها بفضل قانون التأميم. كنت أغازل وطنيتهم الهشة بكلمات عن العدل والحرية والمساواة وأشياء أخرى يحبون سماعها ولم يجربوها فى حياتهم. أسهر كل مساء لإعداد ما سيقرأه أسامة فى الصباح. إلا هذه الليلة. لم أقم بإعداد أي شئ. فتحت كتاب العلوم الذي سلمته لنا المدرسة و اخترت صفحة بعيدة فى مؤخرة الكتاب ونقلت منها مقدمة عن تطوير التكنولوجيا وكيف أن العلم سيستطيع فى المستقبل القريب أن يجعل من عصير البرتقال وقودًا للسيارات. غدًا هو يوم ميلادي وأريد أن تضحك المدرسة كلها عندما يقرأ أسامة هذه المقدمة.

(3)
تتوسط الصورة الأستاذة سعاد مُدرسة اللغة العربية والمسؤولة عن الإذاعة المدرسية. كانت علاقتها بكافة الأساتذة الذكور علاقة سيئة لأنها كانت من أسرة اقطاعية لازالوا يملكون الأرض والألقاب الحديثة. وكانت علاقتها بالسيدات على نفس الدرجة من السوء لأنها كانت على حد قولهم متحررة مثقفة تعشق القراءة. الأستاذة سعاد كانت كجُملة عربية سليمة كاملة التشكيل. سمراء ذلك السمار الذي يدل على علاقة دائمة بالشمس والبحر. أطلقت شعرها الأسود اللامع حتى وصلت أطرافه إلى مؤخرتها التي نحتها أزميل فنان يعشق النساء. تكتحل بكحل أسود أضاف إلى بحور عيونها الواسعة اتساعا.
لا استطيع نسيان الأستاذة سعاد ما دمت حيا. فى هذا اليوم لم أخبر أحدا فى المدرسة أنه عيد ميلادي. فقط أشتاق إلى العودة إلى المنزل لأرى ما اشتراه أبي لي من أقلام. دخلت الأستاذة سعاد إلى حصة اللغة العربية كعادتها تظلظها سُحب من البهجة وتغسلها عطور من أزهار الجنة. بلا أي مقدمات تحدثت الأستاذة سعاد عن أعياد الميلاد! و سألتنا نحن-المراهقون الذين تعلموا أسماء أعضائهم الذكرية منذ لحظات- عن الحكمة والفلسفة المؤدية إلى الاحتفال بأعياد الميلاد! طبعًا كان سؤال لا ينتظر الإجابة لأنها واصلت كلامها واستنكارها لأولئك الذين يحتفلون بأعياد ميلادهم. قالت عيد ميلادك يعنى مرور سنة من حياتك وأنك أقرب إلى الموت خطوة! وهكذا مع كل عيد ميلاد تدنو أكثر من القبر.
عُدت إلى المنزل غير مشتاق إلى الأقلام ولا أفكر إلا فى هذا القبر الذي اقترب مني أو اقتربت أنا منه. لم أرد على تهنئة أبي بعيد ميلادي. كل ما أفكر فيه هو كيفية التحايل على هذا القبر الذي يلاحقني.
(4)
كبرت وهاجرت وعملت وحملت الصورة معي وكلمات الأستاذة سعاد لا تفارقني. فى الجامعة فى نيويورك كان كل قسم يحتفل بعيد ميلاد طُلّابه. هناك فريق من الطلبة يقوم بتنظيم الحفلات كل شهر علي حسب تواريخ الميلاد. يقوم هذا الفريق بجمع التواريخ من كل الطلبة الجدد. تهرّبت من إعطائهم تاريخ ميلادي وتم استدعائي من رئيسة القسم لسؤالي عن سبب رفضي. قالت نحن نحترم خصوصية الطلاب وأنها رفضت إعطائهم تاريخ ميلادي دون اذني. قصصت على الدكتورة أبيجال حكايتي مع أعياد الميلاد وفلسفة الأستاذة سعاد. ضحكت الدكتورة أبيجال كطفل تعلم الضحك منذ لحظات. وقالت يالها من غبية هذه ال سعاد. إنها فلسفة سوداوية خاطئة بكل تأكيد. لماذا لا ننظر إلى عيد الميلاد على أنه احتفال بعام سعيد مضي وأننا فى انتظار المزيد من السعادة؟
(5)
بحثت عن الأستاذة سعاد بعد نشر مجموعتي القصصية الأولى. سألت عنها فى المدرسة قالوا أنها تزوجت وتحجبّت وأقلعت عن التدريس! بحثت أكثر حتى عثرت على صديق له صديق أخر زوجته هي بنت خالة الأستاذة سعاد. أعطيتها نسخة من الكتاب لتوصيلها للأستاذة مع اهداء:
إلى من علمتني أهمية الهمزة في اللغة العربية و عدم أهمية أعياد الميلاد فى الحياة.. أستاذتي سعاد.

No comments: