رد فعل

أنت تستطيع فقط أن تتحكم في ردود أفعالك مهما كان قدر الغباء الذي تواجهه. رد فعلك يجب أن يمثلك أنت لا يمثل من أمامك لأن الكلمات ترتقي أحيانًا، تسقط..تهبط..تجرح..وأحيانًا تقتل. كلها متغيرات والباقي والثابت دائمًا هو رد فعلك أنت!

حتى جاءت سماح علوان


لم يجزم أحد أنه قد سمع بالفعل صوت سماح علوان وهي تتحدث بجملة طويلة تزيد كلماتها عن نعم ولا. لم تُغنِّ سماح معنا النشيد الوطني في الصباح، ولم تُردّد تحية العلم بحماسة الصبيان، حتى الأساتذة تحاشوّا سؤالها أي شيء خلال الحصص. هناك حكايات عن بحّة صوتها التي تسلبُ القلوب والعقول.
وجود سماح في المدرسة كان مثل «تعويذة مباركة» أو شيء مهم لابد منه، مثل سارية العلم التي قدّسها الأستاذ عبد الله – ناظر المدرسة – حتى كاد أن يقتل زميلنا نبيل دعبس عندما رأه يتبول على القاعدة الأسمنتية لها.

لا  جديد في القرية، تتراص الأيام بجوار بعضها البعض في ثبات جنود جيش ديكتاتور، لا تتحرك حتى يأتي حدث أو يد تُرفع لتعطيها أمرًا بالتحرّك. في ذكريات الطفولة القليلة هناك لحظات لا يمكن نسيانها، منها هذا اليوم المشهود الذي تم فيه تشييد القاعدة الخرسانية التي غُرست فيها سارية العلم.  جاء الأستاذ عبد الله منذ الصباح الباكر يغلبه شعور أنه يقوم ببناء صرح يُخلّد لكل ما قام به  للقرية من أمجاد. تخلّى الرجل عن البدلة البُنية الشهيرة، وارتدي جلبابًا أبيضًا فوق سروال رمادي وشبشب بلاستيك. قاد الأستاذ عبد الله العُمّال وهو يعطيهم تعليمات صارمة بينما هم يصبّون القاعدة الخرسانية التي لم تزد عن مربع صغير متر في متر. قام الأستاذ عبدا لله بغرس السارية بنفسه بزاوية ٤٥ درجة، محاكيًا الصورة الشهيرة لجنودنا في حرب ٧٣ وهم يرفعون العلم فوق أرض سيناء، ثم سهر  الليل كله ليحرس القاعدة الخرسانية حتى لا يقوم أحد الأشقياء أولاد الزواني – يقصدنا نحن التلاميذ – بكتابة حروف  إسمه أو وضع كفّ يد على الأسمنت الطري كما فعلنا من قبل في مصطبة المسجد. قال وهو ينصب خيمة صغيرة بجوار القاعدة الخرسانية:
«هذا جيل من القرود. لا يحترم التاريخ.»  

 كان هذا من أهم الأيام التي شهدتها «مدرسة الشهيد حمامة نوفل» الذي لا يستطيع أحد في القرية كلها أن يعرف من يكون وأين استشهد بالتحديد ولماذا يُزيّن إسمه لافتة المدرسة. أصبحت القاعدة الخرسانية من أهم الإنجازات في القرية التي ماتت فيها الحياة.
كان ذلك في أحد الصباحات الموحلة من شهر يناير. لم تتوقف السماء عن الشتاء وانهزمت الشمس لأكوام سميكة من السحب الرمادية. انتشرت في القرية روائح الوحل المختلط بخراء البهائم. كنا نجلس في الفصل نيام تحفُّنا هالة كبيرة من البؤس. إستيقظنا فجأة على روائح ياسمين ينتصر في ثبات على روائح القمل والبراغيث. حينها، كانت الحاجة حكمت تصرخ في نبيل دعبس:

– لا أريد أن أسمع صوتك يا ابن سيّدة. القيامة قامت وسوف تنطبق السماء على الأرض. اللهم اجعله مطر خير وبركة.. اللهم اجعله مطر خير وبركة.
لا نعرف بالتحديد طبيعة عمل الحاجة حكمت، فهي لا تقوم بتدريس أي مادة، دائمًا موجودة في غرفة المدرّسات، وكانت تقوم بملئ فراغ بعض الحصص عندما يغيب أحد الأساتذة؛ تأتي إلى الفصل وتجلس على المقعد تسبّح الله على مسبحتها الطويلة حتى ينتهي وقت الحصة.
أخذت روائح الياسمين تقترب أكثر فأكثر، وازدادت حيرتنا عندما رأينا الأستاذ عبد الله يقف أمام الفصل. مستحيل أن يكون هو مصدر هذه الروائح الجميلة، فهو دائمًا وأبدًا له رائحة الحلبة الساخنة. تبدّدت الحيرة والشكوك في أن الأستاذ عبدالله هو مصدر عبير الياسمين عندما رأيناه أمام الباب وهو يزيح عن حذاءه بقايا من خراء البهائم العالق في الكعب. بعد قليل عرفنا مصدر روائح الياسمين عندما وقفت سماح علوان خلفه على باب الفصل.
إنتفضت الحاجة حكمت من مقعدها وأزاحت عن كتفيها الشال الأسود الذي كانت تتدفأ به وصرخت فينا من أعماقها:
– قيام
أزحنا القمل والبراغيث من على أكتافنا ولبّينا الأمر في حماسة نادرة الحدوث وعيوننا مُعلقة بهذا الكائن البديع الواقف خلف الأستاذ عبد الله الذي  دخل الفصل وأشاح بيده في اتجاهنا يأمرنا بالجلوس، ودار بعينيه الغائرتين في فضاء الفصل الضيّق حتى وجد غايته. اقترب من تختة أيمن البردان وأمره بالقيام:
– قُم يا ساقط يا ابن الساقط. احمل هذه التختة وضعها في أول الصف.
كان أيمن اكبرنا سنًا. لا نعلم كم عدد المرّات التي رسب فيها في الصف السادس الإبتدائي قبل أن ينتقل معنا إلى الإعدادية.
اعترض أيمن وسأل الأستاذ عبد الله:
– وأين أجلس أنا يا أستاذ؟
لم يفكر الأستاذ عبد الله، بل صرخ فيه قائلاً:
– أحضر معك غدًا بردعة حمار أبوك واجلس عليها يا أشطر طالب تلميذ في المحافظة. أنت حصلت على الإبتدائية في عشر سنوات يا بغل!

وضع أيمن البردان التختة مطرح ما أمره الأستاذ عبد الله، وأكمل اليوم الدراسي واقفًا على قدميه وأنهى العام الدراسي كله جالسًا على قفص من البوص، وآخر جعله طاولة يكتب عليها كلما لزم الأمر.
ابتسم الأستاذ عبد الله لسماح وقال لها بنبرة حنونة لم نسمعها من قبل:
– تفضلي يا سماح يا ابنتى. هذا هو مكانك.

دخلت سماح يسبقها عبير الياسمين. إكتسى وجهها تعبيرًا ينمّ عن عدم الإكتراث بأي شيء حولها، كأنها تعيش في عالم آخر. شمخت أنفها في كبرياء وهي تخطو تلك الخطوات الضيّقة من الباب إلى التختة. بدت أنثى ناضجة، تركت لشعرها الأسود الطويل العنان حتى لامس مؤخرتها المستديرة. كانت طويلة ذات عيون مكحلة، واسعة، خالية من العماص  ورموش لم نرَ لها مثيل. إرتدت بنطلونًا أسودًا وبلوزةً بيضاء ضاقت وهي تعافر لتحتوي النهدين الناضجين. جلست في تختة أيمن الذي علت وجهه ابتسامة بلهاء غير مُصدق بأن هذه المؤخرة البديعة تجلس الآن في نفس المكان الذي جلست عليه مؤخرته التي أكلها القمل والناموس. جلست سماح وحيدة وهكذا بقيت لا يستطيع أحد الإقتراب منها أو التحدّث إليها. لم يستطع أحد التحجّج باستعارة كتاب. لم تبتسم لأحد ولم تعيرنا أي اهتمام، بدت كأنها هنا في مهمة رسمية ولفترة مؤقتة.

استرجع الأستاذ عبدالله نبرته الآمره التي عهدناها وهو يحدّثنا. رسم على وجهه المثلث علامات الغضب:
– هذه سماح علوان زميلتكم الجديدة. سوف تحضر معكم الدروس مؤقتًا حتى نستلم أوراق تحويلها  من القاهرة إلى مدرسة الشهيد حمامة نوفل. أي شيطان منكم يحاول يضايقها سوف أقصف رقبته إلى نصفين.
خرج الأستاذ عبد الله من الفصل تتبعه الحاجة حكمت، وأخذت تتحدّث معه لبعض الوقت ثم رجعت الفصل لا تعرف ماذا تفعل! تركنا الأستاذ عبدالله وترك كلمة القاهرة ترن صداها في فضاء الفصل الضيّق المعطر بالياسمين وبقايا خراء ووحل. كلمة القاهرة كان لها فعل السحر على عقولنا الصغيرة، بدت القاهرة بالنسبة لنا دائمًا بعيدة، كيف لها أن توضع في جملة واحدة مع مدرسة الشهيد حمامة نوفل؟ ذهب الأستاذ عبد الله تاركًا خلفه لغزًا يجلس في أول تختة في الصف الأول، وعندما يكون هناك لغز نجهل حقيقته، يشتغل الخيال.

في المساء اجتمعنا كالعادة تحت شجرة التوت أمام بركة المياه التي تعجّ بجثث الكلاب والبهائم. لا يوجد في القرية أماكن كثيرة للترفيه. القرية كلها عبارة عن شارع كبير والمدرسة والمسجد والوحدة الصحيّة التي هجرها الطبيب منذ شهور. نحن طلبة المدارس نجتمع دائمًا تحت شجرة التوت، المُدرّسون والقليل من الموظفين يتسامرون حول سارية العلم في المدرسة مع الأستاذ عبد الله، أما باقي الفلاحون فيذهبون إلى كشك مغاوري لتدخين الشيشة وتناول الشاي.تحت شجرة التوت كنا نحلّل مباريات الكرة في بعض الأوقات، لكن في المساء نتنافس في قتل الناموس ونعلن في نهاية السهرة عن الفائز الذي استطاع قتل أكبر عدد منها. تنوّعت أسلحة القتل، ولم يكن هناك أي ممنوعات في اختيار الأسلحة. كنا دائمًا وأبدا ننتصر على الناموس، كل مساء، إلى أن جاءت سماح علوان. تغيّرت أحاديثنا تحت شجرة التوت، تسلّلت إلى قاموسنا الصغير أبجديات جديدة، مثل مشاعر وسهر واشتياق. نضُجت أعضاؤنا الجنسية فجأة واكتشفنا أن لها وظائف أخرى غير التبوّل. لم ننتصر أبدًا على الناموس منذ هذا اليوم. كان يصيبنا بخدر بديع ونحن نتخيل سماح عارية. يأكل الناموس أجسادنا ويرتع بكل أريحية ونحن في نشوة ساكرة.أصبح وصول سماح علوان تاريخ جديد تؤرخ به الحياة في القرية. في الحالات النادرة التي كنّا نتحدث فيها عن أي شيء غيرها، كان لابد أن نقحم اسمها فيه. مثلا قال نبيل دعبس ذات مساء:
– آخر مرة فاز فيها الزمالك على الأهلي كانت قبل وصول سماح.
أو:
– لم تُمطر السماء مثل ذلك اليوم الذي دخل فيه الأستاذ عبدالله الفصل ومعه سماح علوان.
 كانت الحياة شيئًا قبل سماح علوان، وأصبحت شيئًا أخرًا بعد سماح علوان.

٢
حول القاعدة الأسمنتية في فناء المدرسة جلس إبراهيم أبو ودان مفتونًا بحديث الأستاذ عبد الله عن علوان السميدي والد سماح. عشق إبراهيم البنت عندما كان يراقبها من بلكونة منزله القريب من المدرسة وهي تقف في الفناء أثناء الفسحة، وعشق أباها وهو يرى حياة جديدة باهرة مع كل حرف من حكاية علوان السميدي. قصة نجاح مثل التي تحدث في الأفلام: هاجر علوان القرية في الصبا، استقر في العاصمة وتزوج تلك القاهرية التي علّمته الحب. كافح حتى أصبح من الأغنياء والأن يعود إلى مسقط رأسه مقدّمًا مشروعًا كبيرًا تتصدره سماح.
 رأي إبراهيم نفسه هو الآخر يهرب من القرية ولكنه لن يعود إليها أبدًا. عمله كموظف في شركة الكهرباء في مركز المدينة فتّح عيونه على الممكن. أصبح ناقمًا على القرية والبؤس الراقد بين وحلها وناموسها. كان إبراهيم من النخبة المختارة من المدرسين والقليل من متعلمي القرية الذين يحظون بالجلوس في حضرة الأستاذ عبد الله.

 إبراهيم ثلاثيني يرتدي القميص والبنطلون، أصبحَ أفنديا يلجأ إليه الكثير من أبناء القرية عندما يحتاجون إلى أي شيء خاص بالحكومة، إلاّ أنّه لا يساعد أحدًا أبدًا فأطلقوا عليه لقب «وجه الغراب». ورث عن أبيه فدّان أرض جعله من الأعيان، لم يتزوج لأنه ببساطة لم يجد في القرية فتاة تليق بحامل دبلوم وموظف مثله، إلى أن جاءت سماح، وهنا بدأت الأحلام تراوده. كان يسأل نفسه: لكنها رجعت من القاهرة إلى القرية وهو يريد الهروب. يطمئن نفسه: سوف تذهب معه أينما أراد. هي زوجة في النهاية وسوف تطيع رغبات زوجها. 

لا أحد يعرف طبيعة وتفاصيل مشروع علوان السميدي. عندما رجع إلى القرية قصد زميل دراسته القديم الأستاذ عبد الله وحكى له حكايته التي لا يعرفها أحد منذ أن غادر القرية. طبعًا الأستاذ عبد الله أضاف للحكاية حكايات حتى جعل من علوان السميدي بطل اقتصاد يحمل معه الخير للقرية البائسة ويتفوق على طلعت حرب في وطنيته.

استيقظ إبراهيم من نشوة أحلامة عندما لدغته ناموسه في أنفه الغليظ ولسعته سيجارة بين أصابعه لم يأخذ منها نفسا واحدا. كان حضرة الناظر يطلب  من المدرسين الإهتمام قليلا بالنظافة. وخصوصًا نظافة التلاميذ:

– القمل والبراغيث في تكاثر وروائح خراء البهائم في انتصار. مدرسة الشهيد حمامة نوفل الآن محط أنظار الإدارة التعليمية في القاهرة وبيننا الآن طلبة جدد شكلهم نظيف. كما أن هناك مشروع قومي كبير في الطريق. بالتأكيد سوف نرى إذاعة وصحافة. على الأقل لابد أن يغسل التلاميذ عماص النوم.

ضحك الشيخ عبد الرازق إمام المسجد ومأذون القرية ومدرّس اللغة العربية والدين:
– عندك حق يا حضرة الناظر. المدرسة أصبحت منقسمة،  فصل رائحته تنعم بالياسمين وفصل آخر معبق بالخراء.
ضحك الحضور على نكتة الشيخ عبد الرازق إلا إبراهيم الذي شعر أن في النكته تلميح وإهانة لزوجة المستقبل. وعندما لمح الشيخ عبد الرازق ابتسامة الأستاذ عبد الله رأى أنها إشارة ليتمادى ويسأله:
– سمعنا يا حضرة الناظر أن علوان السميدي والد سماح اشترى قطعة الأرض الكبيرة فى مدخل البلد من أجل المشروع الكبير رغم أن الأرض مملوكة للدولة. هل هذا الكلام صحيح؟
تنحنح الأستاذ عبد الله في جلسته وأخذ ذيل جلبابه يصنع منه مروحه يهش بها الناموس الذي نحر ساقه، ثم تحدث بنبرة خبير يعرف الأسرار:
– أنا لا أستبعد هذا يا شيخ عبد الرازق، علوان السميدي له علاقات كثيرة مع الحكومة، هو الآن في القاهرة لحضور أحد اجتماعات اللجنة الإقتصادية في مجلس النواب لأنه يبحث عن شركاء لتمويل المشروع ويريد أن تساعده الحكومة.
التقط إبراهيم كلمة «شركاء» ورسم بها ألف كُبري يصل بهم إلى أحضان سماح. رأى إبراهيم نفسه جالسًا الآن مع اللجنة الاقتصادية في مجلس النواب يخطّط المستقبل الإقتصادي للقرية.

٣

لا يعرف أحد أين زوجة علوان السميدي. تشّكل السؤال في غرفة المدرّسات عندما استنكرت الحاجة حكمت هذه المرأة التي تركت زوجها وحيدًا وسمحت لإبنتها بارتداء هذه الملابس. راح الهدوء الذي كانت تنعم به الحاجّة حكمت قبل مجئ سماح. كانت تتحدث مع أستاذة الرسم تحية والأستاذة عواطف؛ أستاذة الدراسات، خلعت الأستاذة حكمت من على وجهها نظارة كبيرة ولكنها ظلّت معلقة بسلسلة معدنية على عنقها. تحدثت بغضب واستنكار:
– هذه البنت لها ثدي إمرأة حبلى في الشهر التاسع. كيف لها أن تكون في الإعدادية.
ردت عليها تحية:
– معك حق بناتنا مثل عود القصب، يأكلهن الصدأ بلا صدر أو مؤخرات .
قاطعتها عواطف:
– بناتنا يخبزن وينظفن وراء البهائم والرجال. هل تعرف هي أي شيء سوى الأحمر والأبيض الذي تتزين به؟  كما أني أعتقد أنها رسبت أكثر من سنة وعمرها أكبر من ذلك.
ردت عليها حكمت:
– لم يأت ملفها من القاهرة للتأكد من تاريخ الميلاد. لقد سألت الأستاذ عبد الله عن الملف مرارًا خصوصًا وأن الإمتحانات على الأبواب، وفي كل مرة يجيبني بأن  والدة سماح تقوم بإنهاء بعض المتعلقات في القاهرة وسوف تحضره معها في وقت قريب جدًا.
أضافت تحية:
– لا تنسي أيضًا أن الأكل في المدن كله هرمونات، أنظري للفراخ البيضاء.
قالت عواطف:
– أنها ترتدي ذهبًا يكفي أن يكون شبكة خمسة عرائس.

طار السؤال من غرفة المدرّسات إلى  شجرة التوت عندما تساءل أيمن البردان عن  شكل تلك المرأة التي قدّمت للدنيا فتاة مثل سماح. سماح بالتأكيد هي خليط من الأب والأم. علوان كما ترى مجرد زيتونه كما أطلق عليه أهل القرية في الصبا. رأس مستديرة وبشرة سوداء وشعر أكرت. سماح لا تشبهه على الإطلاق.لابد أنها تشبه أمها.

على كشك مغاوري لم تحظَ سماح بنفس الأهمية التي حظيت بها في غرفة المدرّسات ولم تشعل اللهيب الذي أشعلته  تحت شجرة  التوت. الفلاحون الذين أهلكتهم الشمس والبهائم لا تغريهم امرأة. لقد فقدوا الرغبة، إذ كان كل ما يشتاقون إليه  هو سد الأفواه الجائعة.  جاء مشروع علوان كمعجزة انتشلتهم من القحط الذي يعيشون فيه. يقع الكشك على حدود القرية، ويطل على قطعة الأرض الفارغة التي اشتراها علوان السميدي للمشروع الكبير. قبل وصول علوان السميدي كانت قطعة الأرض مبولة ضخمة استخدمها جميع رواد الكشك لقضاء حاجتهم. مُلئت الأرض بأكوام الخراء وروائح البول. لكن بعد خبر المشروع، حافظ مغاوري ورواد الكشك على نظافة الأرض  حتى صار الفلاحون يلومون بعضهم: كيف تشُخ في أرض المشروع؟

عندما كان علوان يعيش في القرية، كان مجرد علوان ابن السميدي العلّاف الذي يعلف البهائم وينظف خلفها، كره القرية وفرّ منها ومن وظيفة والده التي لم يحترمها أحد. بعد كل هذه السنين يعود علوان الذي لم يتوقع أحد عودته. لماذا يعود الآن فهو لم يرجع حتى لحضور دفنة أبيه؟ بعد الكشف عن نيّته في مساعدة القرية بمشروع ضخم أصبح لقبه الأستاذ علوان، وعندما بدأت تفاصيل المشروع تعلو للآفاق، صار الباشمهندس علوان. شُوهد في البلد حاملًا حقيبة يد،  ورسومات هندسية وعلى كتفه كاميرا فيديو. أخذ يخطط ويعيد بناء القرية في رأسه. لم يهدأ علوان، في كل يوم تجده في مكان ما، يذهب إلى الطريق العموم ثم أرض المشروع ثم المسجد والمدرسة. لم يترك جزءًا من القرية إلا وطأته قدماه. في كل المشاوير كان معه الأستاذ عبدالله، ثم انضم إليهما إبراهيم وجه الغراب أبو ودان. 

٤

كانت هذه هي المرة الأولى- في تاريخنا الدراسي – التي نتطلع فيها لإنتهاء العطلة والعودة إلى المدرسة. بعد أن سافرت سماح إلى القاهرة لقضاء الإجازة، تركَتْ فراغًا باردًا تحت شجرة التوت.
ذهب علوان السميدي  إلى القاهرة ولكنه عاد سريعًا وبدأ يتحدث مع الفلاحين عن المشروع. كان يعقد اجتماعات مع الأهالي في المسجد وكشك مغاوري وفي المدرسة حول القاعدة الإسمنتية. ابراهيم وجه الغراب أبو ودان والأستاذ عبد الله لا يفارقانه. تحدث علوان عن الخير القادم وعن مزرعة الحيوانات التي سوف تحتوي على العديد من الأجهزة التي تعلف البهائم وتحلب اللبن. سوف يكون هناك العديد من الوظائف في مصنع البيض والدّواجن، وفي مصنع للغلال، وسوف يقوم برصف الطرق وإدخال شبكة صرف حديثة، وإنشاء مصنع آخر للألبان. لابد أن تصبح القرية مثل قرى الريف الأسباني، ولكن المشكلة الوحيدة هي ضعف التمويل. بعد أن اشترى علوان أرض الحكومة لم يعد معه ما يكفي من سيولة مالية.

قذف علوان بأرقام هائلة في أوجه الفلاحين. القرش سوف يكسب مائة قرش. الجنيه سوف يكسب مائة جنيه. هذه قريتنا ولن يساعدنا أحد. الحكومة مشكورة وافقت أنها تبيع لي قطعة الأرض الكبيرة وأصدرت كل التصاريح اللازمة ولكن لابد أن نساعد أنفسنا. خطب الشيخ عبد الرازق في الناس، حثّهم الأستاذ عبدالله على العمل الوطني، أخافهم إبراهيم وجه الغراب حتى يخرجوا جنيهاتهم القليلة. 
لم يتبرع أحد لأنهم بكل بساطة لا يملكون أي شيء. لم يسمع أحد للشيخ عبد الرازق وكلماته عن العطاء والإيمان. لم يقف الإيمان يومًا في جانب الفقراء الذين يؤمنون بأسباب فقرهم منذ بدء الخليقة. رأى إبراهيم حضن سماح يصير بعيدًا عندما سمع كلمات علوان السميدي التي غلفّها اليأس. قال علوان في أحد جلسات سارية العلم أنه سوف يبيع الأرض ويعود إلى العاصمة لأنه فشل في مشروعه. هبّ إبراهيم من جلسته صابًا غضبه على أهل القرية أولاد القحاب الذين يبخلون على أنفسهم بمشروع مثل هذا. كيف لسماح أن تضيع بهذه السهولة؟

٥

وقف إبراهيم وجه الغراب في بلكونة منزله ينظر إلى الحقول التي غطاها الندى. روائح البرتقال تملأ الأجواء لكنها لا تُقارن بعبير الياسمين الذي سكر منه ليلة أمس. أرض المشروع في الأفق تحمل المستقبل الموعود. أشعل سيجارة وفي يده كوب من الشاي وعلى وجهه ابتسامة الإنتصار. كانت شمس النهار تعافر ما تبقى من ظلام الليل. صلاة الفجر انتهت، صوت الشيخ عبد الرازق وهو يختم الصلاة مسموع رغم السعال القادم من الميكروفون القديم. 
تجاهل القليل من الفلاحيين صلاة الفجر كما يتجاهلها إبراهيم دائمًا. كان يتابع بعض الفلاحين يجرّون  بهائمهم إلى الحقول عندما شاهد سيّارة فارهة يقودها شاب خول – هكذا وصفه لاحقًا. مرّت السيارة التي تطلّع إبراهيم إلى رُكابها  فالتقت عيناه بعينى سماح الجالسة قرب السائق، وعلوان السميدي يجلس في المقعد الخلفي. 

كان ذلك يومًا آخر لن تنساه عندما استيقظت القرية على إبراهيم وجه الغراب مرتديًا لباسًا أبيضًا وفانلة داخلية وهو يجري حافي القدمين في اتجاه المسجد قادمًا من غرفة العلاّف القديمة التي يقيم فيها علوان وسماح مؤقتا. كان علوان قد أخبر حضرة الناظر بأنه سيبني منزلًا مناسبًا فيما بعد، ولكن الآن سوف يقيم في غرفة والده القديمة المعروفة باسم غرفة العلاّف.

كان الأستاذ عبدالله يُحولق وهو يختم الصلاة عندما انقضّ عليه إبراهيم  وركب فوقه واعتلاه ناعتًا اياه بالنصاب شريك النصاب. 
قام لفيف من المصلين لتخليص الرجلين فحملوا إبراهيم بعيدًا بعد أن سقط لباسه وبدأت مؤخرته في الظهور. في مساء ذلك اليوم، قصّ إبراهيم حكايته وأصبحت حديث القرية لأسابيع طويلة. يُحكى أن الشيخ عبد الرازق قد شخر من الضحك ووقع من على مقعده وخبط رأسه في قاعدة السارية مما دعاه لزيارة الطبيب في القرية المجاورة، لأن الأمر استلزم بعض الغُرز. جلس إبراهيم في هذه الليلة حول سارية العلم بعد أن اعتذر للشيخ وطلب منه السماح والمغفرة لأنه معذور. ثم قص عليهم الحكاية:
– عندما  رأى إبراهيم علوان وسماح يجلسان في سيارة هذا الشاب – الخول ذو الشعر الطويل الناعم، أهلكتهُ الظنون فذهب إلى غرفة العلاّف القديمة. وجد الباب مفتوحا فدخل. فتّش في الغرف فلم يجد حتى ملابسهم ولا أي دليل على رغبتهم في العودة. سقط قلب إبراهيم في قدميه عندما فسّر مشهد هروبهما في هذا الوقت من اليوم.
سأله الشيخ عبد الرازق في تعجب:
– وماذا يعنيك إذا كانا هربا أو أنهما لن يعودا؟ لماذا كل هذا الإهتمام؟

تمالك إبراهيم نفسه وأخذ يستجمع شيئًا من الشجاعة. تنحنح قليلا وأشعل سيجارة أخرى رغم أن السيجارة التي في يده مازالت بأكملها. حاول أن يبلع ريقه ولم يستطع. شعر بأن لسانه قد تضخم داخل فمه ولم يعد يقدر على الكلام. بعد أن دخّن عدة سجائر في صمت، قصّ لهم في خجل أنه بعد أن سمع بأن علوان يراوده اليأس وينوي العودة إلى القاهرة إذا فشل في تمويل المشروع، قام بزيارته في غرفة العلاّف دون أن يخبر الناظر أو أي جليس من جلساء سارية العلم. تزين وجه الغراب وارتدي أجمل ما يملك. بعد أن جلس على مقعد متهالك، جاءت سماح بالشاي و سلّمت عليه وطبعت في يده روائح ياسمين لم يستنشق مثلها في حياته. كانت ترتدي فستانًا منزلي جعلها أبهى واشهى. عندما رآها وجه الغراب في هذه الهيأة، رسم شهور عسلٍ في رأسه وضاجعها ألف مرة في ألف موضع في تلك اللحظات القليلة بينما هي تضع الشاي على الطاولة وتبتسم في غنج.

 سبب زيارة إبراهيم لعلوان هو أولا عدم رغبته في أن تذهب سماح. ثانيًا المشروع: لقد باع ابراهيم الفدان وجاء بالمال  لعلوان كي يكمل مشروعه. لمّح إبراهيم وجه الغراب إلى رغبته في سماح، وافق علوان في الحال وقال له أنه كان يتوقع طلبه هذا حتى أن سماح قد لاحظته من المدرسه وهو يتابعها من بلكونة منزله. نادى علوان على سماح وزفّ لها بشرى الخطوبة وطلب منها أن تصنع شايًا  جديدًا. لم يحك وجه الغراب لمخلوق لأن علوان طلب منه التكتم حتى لا يحسده أحد. حاول علوان أن يعطي وجه الغراب وصل أمانه بالمبلغ لكن وجه الغراب رفض بكل شهامة. فلا يجوز أن يأخذ من نسيب المستقبل وصلًا. إذا كان يأمنه على سماح كيف له ألاّ يستأمنه على ثمن فدان أرض.
أن تهرب الأماني من قريتنا، فهذا هو العادى والطبيعى، لذلك لم يعبأ الناس بهروب علوان وسماح، بلدنا مش وجه خير. هم مؤمنون بذلك منذ القدم.

لم يشعر أحد بالأسف لخسارة إبراهيم وجه الغراب ثمن فدان الأرض. لم يهتم أحد بالبحث والعثور على علوان أو مساعدة إبراهيم في استرداد ماله. اعتلت جبال الخراء قطعة الأرض أمام كشك مغاوري مرة أخرى. هدأت غرفة المدرّسات ورجعت الحاجة حكمت للتسبيح. تحت شجرة التوت عادت انتصاراتنا على الناموس بعد أن قلّت سيرة سماح يومًا بعد الآخر عن أحاديثنا حتى اصبحنا لا نتذكرها إلا فيما ندر. انقطع وجه الغراب عن اجتماعات سارية العلم وصار يجلس وحيدًا في بلكونته ينظر إلى المدرسة التي حضنت يوما حلمه في الهروب. عادت الحياة إلى القرية هادئة بلا أمل كما عهدناها حتى جاء الدكتور بهاء….
-----------------------
نُشرت في موقع (آخر قصة) 


يجب على الضحية أن تُقتل في صمت

الأسافل يريدون من الضحية أن تموت في صمت حتى لا يزعج صوت استغاثتها مزاج القاتل
يتفرجون...يستمتعون بالفُرجة ويساعدون القاتل في تكتيف ضحيته

ولا غائب يعود


تجلس كليلة على عتبة الدار تنتظر عودتهُ
يلعب الأطفال، تنقر الدجاجات أرزاقها بين حبات الحصى
يسدل نقيق الضفادع ستائر الليل على القرية
بدّلت الحقول لباسها، وطُحنت حبات القمح مائة مرة
كل هذا الموت وكل هذه الحياة ولا غائب يعود