شباك أم سامي

نُشرت فى عربي ٢٢


(1)
عشقت أم سامي الموسيقى ولذلك لم تعترض عندما قال لها سامي أنه سوف يمتنع عن الذهاب إلى المدرسة حتى يتمكن من تشكيل فرقة موسيقى لإحياء حفلات الأفراح.

ورثت أم سامي عن المرحوم زوجها عمارة صغيرة من خمسة طوابق ودكانين صغيرين. قامت بتأجير العمارة كلها عدا الدكانين، تركتهما لسامي يستثمرهما عندما يصبح رجل. سكنت هي وسامي في فى الدور الأرضي حيث يوجد شباك الصالة الذي يطل على الشارع وما يدور به من حياة. تجلس على كرسي متهالك تنظر من الشباك وبيدها سيجارة دائمة وفنجان قهوة انتشرت عليه ورود حمراء وفى الخلفية ،رغم ضجيج الشارع، تسمع صدى أغنيات قديمة لمطربين من الأسكندرية لا يعرفهم الكثيرون أمثال حسن حسان وإبراهيم عبد الشفيع.

ردت على طلب سامي بعد أن ألقت السيجارة فى الشارع:
لابد أن تكون فرقة موسيقية مختلفة. إذا كنت سوف تغني "بسم الله الرحمن الرحيم نبدأ الليلة" مثل عوكل وفتحي يوسف ومحمود أبو لطعة، البقاء في المدرسة أفيد لك ولنا جميعًا.

هنا قدمني سامي كدليل حي على أن الفرقة الموسيقية سوف تغني فقط كل ما هو جديد. قال لها أني سوف أقوم بكتابة أغنيات جديدة للفرقة. طلبت مني أن ألقي عليها بعض ما كتبت وهي تُشعل سيجارة جديدة. لم أعلم حينها أني أمام لجنة إستماع للحكم على ما أكتب من أشعار. بعد المحاولة الثالثة مع الكبريت، نجحت أم سامي في إشعال السيجارة وأمرتني بصوت يقطعه دخان النفس الأول:
أطربني يا ولاه


(2)
ظهرت نتيجة الإعدادية في الرابعة فجرًا. كان صيف الأسكندرية يزفر نارًا في الثانية ظهرًا عندما وقفت أمام المدرسة منتظرًا إعلان النتيجة. يخرج عم مختار فرّاش المدرسة يصبرنا كل نصف ساعة بأن النتيجة سوف تظهر في الساعة القادمة. لم تأتِ هذه الساعة إلا عندما جاء نداء الفجر من مساجد بعيدة متفرقة وعندها خرج عم مختار بالبشارة. رجعت البيت ومعي من الفخر ما لا أستطيع أن أحمله. فقد جاء ترتيبي الأول على المدرسة.

لم يأخذ أبي بالأسباب، ولم تنتصر نتيجة تفوقي على غضبة. كان يقف فى شرفة منزلنا غاضبًا ليس قلقًا على غيابي ولكن لأنه تأخر عن ميعاد نومه واستماعه طوال الليل إلى بكاء أمي وقلقها وقصصها التي لا تنتهي عن أولاد فى مثل عمري غرقوا في البحر أو تم خطفهم عن طريق أحد العصابات. 

 فتح ابي الباب وكان على وشك أن يصفعني. لو أراد أن يصفعني حقًا، لفعلها بسهولة. ولكنه أخذ وقته حتى يعطي أمي الفرصة كي تقوم من مجلسها لتدافع عني بكل جسارة بعد أن ملئت رأسه طول الليل بالغضب تجاهي. في محاولة هروبي السلهة وأنا أحتمي خلف أمي لوّحت له بالشهادة في يدي وبيان الدرجات معلنًا أني الأول على المدرسة. كان قد قرر فى نفسه أن يذهب لينام وأنه واجبه قد انتهى فى هذا المشهد الدرامي الناجح، بعد أخذ خطوتين في طريقه إلى غرفته،قال لي ساخرًا:
هل سيتم تعينك غدًا فى الديوان بالإعدادية غدًا يا ابن الكلب.

(3)
قلت لأم سامي أن ما أكتبه الآن يختلف بالتأكيد عما سوف أكتبه لفرقة سامي الموسيقية. قالت لي وهي تنظر إلى نقطة مجهولة في الشارع:
الشيخ سيد وبدارة كانا يغنيان في الأفراح. أسمعني أي شيء مما كتبت
لم أكن جاهزًا لهذا الإمتحان وبعد أن استدعيت أجمل ما أحفظ، قاطعتني أم سامي بعد الجملة الأولى وهي تضحك:
يا ولاه هذه الأشعار تضحك بها على البنت ابتهال بنت توحة كي تجر قدمها إلى السرير. ما لهذا الكلام بالأفراح.
ثم تركت أم سامي مقعدها الشهير خلف الشباك وتحركت في اتجاه أحد كنبات الصالة لتُخرج من تحتها صندوق أبيض صغير وأخذت منه شريط كاسيت لصباح:
أسمر أسمر.. طيب ماله..هو سماره ..سر جماله
ثم تبع صباح أغاني غزل كثيرة لأصحاب البشرة السمراء
(4)
لم يحتاج سامي لأغنية واحدة من أشعاري. كثرت صناديق أم سامي البيضاء وأخرجت كنوزها المدفونة من الأغاني. علمّت سامي أغاني عايدة الشاعر وليلى نظمي وأغاني أخرى من التراث السكندري التي لا علاقة لها بالأفراح. بدأ سامي فى البروفات فى أحد دكاكينه المغلقة. تخلّت أم سامي عن الكاسيت الذي كان دائمًا في خلفية  شباكها وبدأت تسمع لسامي وفرقته يغنون الأغاني التي تحبها. لم تؤتي الفرقة بثمارها. لم يغني سامي في فرح واحد. البروفات مستمرة لإشباع رغبة أم سامي في سماع ما تحب من أغاني.

بعدما تلاحقت أيام الصيف وتسلل الخريف ينفث في سماء الإسكندرية نسمات رقيقة ويلوّن السماء باللون الأبيض، لم يكن فراقي عن شباك أم سامي سهلًا. علم أبي بفرقة شباك أم سامي وجاء ذات أصيل يطلب من أمي أن تهنئني لأني أصبحت شاعرًا لفرقة عوالم قد الدنيا.

 الحق أقول، لم يخش أي من أبي أو أمي انحرافي وكانا شديدي الثقة بتفوقي لذلك لم أنقطع عن شباك أم سامي الذي لم يمثل أي انحراف على الإطلاق. أذهب إليها متى استطعت استمع إلى تعليقاتها على الأغاني القادمة من الدكان. تنظر إلى نفس النقطة المجهولة في الشارع وهي تدندن مع سامي أغنيات فى جمال السُمر. تسألني وهي تشعل أحد سجائرها إذا كنت قد ضاجعت ابتهال بعد؟ أبتسم خجلا فتضحك هي وتلوم هذا التأخير على أشعاري الرديئة.