الّمَــخّبُولْ

نُشرت فى أخبار الأدب عدد 29 مارس 2014
اللينك هنـــا
قصة رأفت رحيم
قصة المخبول بقلم رأفت رحيم، أخبار الأدب عدد ٢٩ مارس ٢٠١٤
(1)
إستيقظ من غفوته، يهُز رأساً يميناً ويساراً بينما يضرب بعصاة الأرض صارخاً فى همهمة موسيقيه واضحه:
سيدنا الولىّ زارنى
وقال لى ما تخافش
طبطب على كتفى
وقال لى ما تخافش
لابس حرير فى حرير
زى الملوك في القصر
وقال لى ماتخافش
طار فى السما الزرقا
وقال لى ما تخافش
ثم عقب هذه الهمهمه نداء طويل بصوت آخر مختلف، فيه نبرة رخيمة آمِره ليس بها من الموسيقى نغمه، هات لى ياحماصه شاي على حساب سيدنا الولىّ ما هو قال لى ما تخافش. وزود السكر حبيتين وخليه خفيف أو تقيل مش مهم.  ما هو قال لى ما تخافش
(2)
المخبول يرى بعين صائبه، يعرف خائنة الأعين وما تخفى بعض الصدور. يرى ما لا نراه نحن أصحاب الآفاق الضيقه والخيال الميت. هو الهداية للقريه وعلامات الرضا لأهلها الذين يؤمنون بآلائه ومعجزاته. فأصبح بإيمانهم به من أهل الخطوه وأصحاب الفضيله والكرامات. لم يكن للمخبول عنوان ثابت، فهو موجود فى الحقول يشدّ من أزر الفلاحين وقت الحرث والزرع والقلع. فى المساجد يؤمن خلف الشيوخ عند ختام الصلوات وإقامة العقائق، فى الوحده الصحيه ينصح الأطباء عند إشتداد المرض، مع الدايّه ليمضى بشهادته على  الميلاد وبدأ الخليقه، وفى تراب المقابر ليخفف من فجيعة الموت.المخبول كائن خيالى ولكنه ملموس كتراب الأرض. واقع حقيقى مثل الفقر والبؤس المرسوم على وجوه أهل القريه. لا تشعر به ولكنك تستنشق رائحته كعرق الفلاح في مواسم الحصاد. تري تحركاته البطيئة المدروسة كدودة المش علي طبلية كل منزل حينما جاعت البطون
حماصه يضع الشاى أمام المخبول بأيادي مرتعشة  وخشوع: قُل للولىّ حماصه غلبان يا مخبول ولسه ما إتجوزش. يرد المخبول عليه فى صوت ممثل مسرحى قدير:الولىّ بيقولك ما تخفش يا حماصه، فأنت من المقربين الأخيّار
(3)
تطاير خبر زيارة الولىّ للمخبول فى أرجاء القريه. هناك خير قادم بلا شك، هناك خبر سعيد لتعيس من تعساء القريه. هناك ألف طلب ورجاء فى إنتظار الإجابه
يتراقص المخبول فى أرجاء القريه فى خيلاء وزهوّ. فقد زاره الولىّ بعد إنقطاع وجفاء. آخر زيارة له كانت منذ شهور بعيده عندما بلغه وبشرّه بأن سميره بنت حميده الفرّان حبلى رغم إنكار طبيب الوحده الصحيه لهذا، ولكنها رُزقت بولدها وحيد رغم أنف الطب والأطباء. يمشى فى شوارع القرية فى عزة المنتصر وخلفه مجموعة من الأطفال يرددون ورائه: سيدنا الوليّ زارنى وقال لى ما تخافش. يمر على جمع من كُبراء القرية يتسامرون، وفى يده عصاه، يُشير بها إليهم، ويضربها في الأرض بعنفوان فينهض الجمع تقديساً وإجلالاً كأنها عصا موسى تفلق البحر! يستمر الهتاف ، يكبر موكب المخبول مع كل خطوه. أصبح كالمغناطيس الذى يجذب الناس إليه، يزداد عدد الأطفال خلفه، يقف الرجال على جانبى الشارع يرفعون أياديهم بإشارات متنوعة مفادها الفرحه، تبدأ الزغاريد والتهانى الحارة عندما ترى النساء بشائر الموكب
(4)
نامت القرية وأصبحت على فرحة نبأ زيارة الولىّ للمخبول. بقايا البهجه الناجمه عن كرنفال الأمس لازل غبارها عالق فى الأجواء والنفوس. بالماضى القريب، كانت زيارات الوليّ للمخبول متكرره، وكان الخير كثير والمعجزات آلائها يغطى فضاء القريه. قبل ميلاد وحيد إبن سميره، كان هناك شفاء ستوته العمياء بائعة الزبد. التى عاشت حياتها كفيفه لا ترى، حتى زارها المخبول وضربها بعصاة على رأسها فأغشى عليها. وعندما قامت، كان بصرها قد رُد إليها.  وزواج نحمده بنت توحه الغجريه التى فاتها قطر الزواج من أعوام ويأست من المحيض. وقبل كل هذا كانت المعجزه الكبرى التى قتلت أي  شكوك في قدسية المخبول وعظمة الوليّ
(5)
كان المرسى العطار  رجل خمسينى غير قادر على الزواج ليس لقلة مال أو جمال. ولكن لعجزه عن أداء واجبه الشرعى مع زوجته الأولى. ذاعت سيرته فى أرجاء القرية الضيقه التى كان لا يجد رجالها أى وسيلة أخرى للتفاخر بينهم سوى عدد المرات التى يضاجع فيها الرجل إمرأته. طلق المرسى إمرأته بحكم واجب النفاذ من شيخ المسجد، وعاش أسيراً لهمزات وغمزات أهل القريه. حتى أتاه المخبول يوماً أسفاً لما أصابه وقال له جئت أزُف لك البشرى يا المرسى. سيدنا الوليّ يقول لك لا تحزن، فنصرة قريب.  وأمره بالذهاب إلى قرية مجاوره لا يعرفه فيها أحد وأن يطلب يد شابه إسمها عواطف بنت مأمون العواد. وكانت عواطف آيه من آيات الحسن. عاد بها المرسى ودخل عليها، ومنذ هذا اليوم لا ينقطع من دار المرسى صراخ النشوه المصاحب لغنج عواطف فى الليل أو النهار.
(6)
إنتصف القمر وإستدار مرة أو مرتين، ولم يظهر دليل على وقوع معجزه جديده للمخبول. رعشات الأمل تدُك قلوب المنتظرين. تري فى العيون التعيسة رجاء أخرس وخوف موغل فى الأعماق. تأخر المعجزه كان سبباً فى أن يوقظ النميمه ويحرك الدسيسه بين أهالى القرية. بدأ الشك ينحر الصدور التى طالما كانت مسالمه مستكينه. ترى هل تمت المعجزه وهبط الخير وإستطاع سعيدٌ ما أن يخفى الخبر خشية أن يوغر قلوب الحُسّاد؟ أين ذهب المخبول؟ منذ كرنفال البهجه ولم يظهر فى أى مكان وكأنه فص ملح وذاب وترك غيابه خوفا وعكاره في النفوس
(7)
جلس المخبول على أطلال ما تبقى من الجدار الذى يحيط الساقية المهجوره الواقعه فى أطراف متراميه من القريه. أساطير كُتبت عن هذه الساقيه. يقال أن من كسر الجدار هو ذيل أفعى عظيمه، غضبت يوماً عندما رأت رجل وإمرأه يمارسان الحب فى نهار رمضان أسفل شجرة الجميز العتيقه، فضربت الأفعى الغاضبه بذيلها ضربات سريعه متعدده لتخلع الشجره من جذورها وتطيرها فى الهواء وتهدم سور الساقيه الذى لم يبق منه سوى تلك الأنقاض التى يجلس عليها المخبول. لم يرى أحد من الأحياء تلك الواقعه، ولا يعرف أحد من قصها فى البدايه ولكنها حقيقه من حقائق القريه وتاريخها المقدس الذى لا يمكن السؤال عن أصله ومصدره
ينظر المخبول إلى التراب الكائن تحت قدميه. يرسم بعصاه على الأرض أشكال غير مفهومه. يمسح ما رسمه بقدميه. يكتب أرقام وحسابات ورموز لا يفهمها غيره، ثم يمسحها  مره أخرى. حوار صامت بدون حروف بينه
وبين التراب والعصا والأشكال التى يخلقها بعصاة
(8)
لم يقطع خلوه المخبول عن خيالاته سوى ذلك الشبح الأبيض القادم من هناك. الحقول الخضراء ممتده على مرمى البصر وفجأه يظهر من وسطها ذلك الجسد ذو الملابس الفضفاضه البيضاء. ظهور الوليّ فى أي مكان كان من معجزاته التى لا يُسئل عنها. يفرح المخبول عندما يستنشق نسمات الحق قادمة تهزم تعاسته الناجمه عن تعاسة أولئك الذين ينتظرون منه الرجاء. ينهض من جلسته فى إستقامة خاشعه ناظراً إلى الأرض ضامماً يديه على عصاه
-         أين أنت سيدي الولىّ؟ كثر السائلون والرجاء عزيز
-         كان لابد من الذهاب والغياب
-         لكن شمس الحق لا تغيب
-         تقلبت قلوب العباد ومع تقلب القلوب تتقلب الأحوال
-         من قلة الحيله
-         الرزق مكتوب فى كتاب معلوم، فلما الحيره؟
-         ولكنهم لا يعلمون
-         ومتى سيعلمون؟
-         عندما تشبع البطون
-         المسافر زاده التقوي
-         عن أي مسافر تتحدث يا مولانا؟
-         قاصد السعاده الأبدية
-         الجائع لا يري أبعد من جوع بطنه
-         ولكن القلوب بصيره
-         القلوب بها علّه وأصبحت لا تُبصر
-         إذن فإسألهم الصبر والدعاء حتى يتم الدواء
-         لن يستطيعوا معى صبراُ يا مولانا! كيف لطفل صغير لا يرى سوى ثدى أمه الجاف أن يصبر، كيف لرجل عاجز أمام بكاء رضيعه أن يصبر،كيف لإمرأه لا ترى سوى قهر رجلها وضيق صدره أن تصبر . كيف سبيلهم إلى المنام وفى ضولوعهم كل هذه الحوائج
-         قُضىّ الأمر ووجب عليّ الذهاب
-         الذهاب إلى أين يا مولانا
-          إلى أناس أحبهم ويحبونى
-         أولا نحبك هنا يا سيدى؟
-         الحب عند الحاجه ليس بحب يا طيب، بل هو وسيلة ورجاء
-          لم ينتهى كلامنا بعد يا مولانا فلا تذهب
   -  بل إنتهى يوم نفذت التقوى وجف الرضا من الصدور
(9)
ثم غاب الوليّ .. ذهب من حيث أتى ، كأنه يسابق الشمس فى المغيب إلى نفس البقعة المسحوره التى ظهر منهافى قلب الحقول الخضراء تاركاً ورائه المخبول مستنداً على عصاه كأنه ماضي أو ذكريفىطريقها إلى النسيان. يرى الوليّ يتضائل حجمه فى الآفاق وتضيع معه بعض من الأحلام.

No comments: