نُشرت فى بوابة يناير هنا
نظرت خارج الشباك، وإكتشفت أن الليل قد أمسى وإنتصف منذ فترة. لم أر أحداً فى المكتب سواى. الأنوار جميعها كانت مظلمه إلا من شاشة جهاز الكمبيوتر الذى أجلس أمامه. عاملة النظافه التى تقوم بتنظيف المكتب ليلاً رمقتنى بنظرة شفقه. إبتسمت إليها إبتسامة مفادها أن الوضع ليس بهذا السوء. وأن لى خارج حدود هذه الجدران حياة. ربما لم تكن هى الحقيقة كاملة ولكن هذا ما رغبت فى أن تفهمه من إبتسامتى. لعنتها فى سرى وأخذت حقيبتى وتمنيت لها ليلة سعيدة وأنا أغادر المكان.
نزلت من المكتب تستقبلنى رياح يناير البارده لتذكرنى بأنى قد نسيت معطفى على الكرسى. تجاهلت البرد. أخرجت سيجاره وأشعلتها ووقفت بضغة دقائق أناظر نفسى إذا كان يجب العودة إلى المكتب لإحضار المعطف أم لا. إنتصرت على أفكار العودة مع آخر نفس من السيجارة وبدأت السير. دائماً وأبداً أنتصر على أفكار العودة، العودة إلى المعطف أو إلى من فارفت أو العودة إلى تلك الأرض القديمة التى أعشق ساكينيها. إنتصارات صغيره غير ذات قيمة ولكنها فى النهاية إنتصارات فى سجل التاريخ الحافل بالهزائم.
جلست على طاوله فى مقهى فى قلب الميدان الشهير. أراقب الظلام الذى خيم على الكون. الثلث الأخير من الليل دائماً أكثر ظلاماً ووحشة. إعلانات كهربائيه ضخمه تجعل الظلام نهار مُلوّن لبضع ثوانى. إشارات المرور تتغير ببطئ من الأحمر إلى الأصفر إلى الأخضر. فى ركن من أركان الميدان جلس عازف كمانجه عجوز يلعب لحن حزين. لا أعرف اللحن تحديدا، ربما لم يكن حزين ولكن الكمانجة بالنسة لى عموماً هى رمز من رموز الحزن مهما كانت سعادة النغم. سيارات التاكسى تمر بهدوء، وكذلك فتايات الليل يسرن فرادى وأزواجاً باحثات عن ذبون الليل اليائس.
راقبت فتاة جميلة حزينة الحُسن تمشى أمام مجلسى، تبتعد فى الشارع وتعود وتغيب أحياناً عن مرمى بصرى. راقبت فتاة أخرى تدخن بشراهة. ثم عادة الحسناء مرة أخرى وإلتقت نظراتنا. أقتربت وجلست على الطاوله دون أن تنتظر دعوتى لها. جميلة حقاً عن قرب. سألتها: ماذا تشربين؟
قالت بدون تردد: ويسكى!
قلت لها: لا أعتقد أن هذا المكان يقوم بتقديم الخمور فى هذا الوقت.
قالت: فلنذهب إذن لمن يقوم بتقديم الخمور فى أى وقت.
قلت: أعتقد أنك صغيره على الشراب فى كل الأحوال. ماذا عن عشاء وبعض من القهوه.
لم أجد سبب مقنع لدعوتى لها إلى العشاء سوى أننى أفتقد تناول الطعام مع بشر. تعودت أن آكل بمفردى لشهور. أكلت هى بنهم شديد كأنها لم تأكل منذ فترة. سألتها عن المدينة . أجابت على الفور: إنها مدينة قذرة رغم نظافة شوارعها.
وماذا عن الناس؟
أجابت بفلسفة الشارع النابعة من قسوة خبرة التعامل مع البشر وليست من رفاهية قراءة الكتب: كيف تكون المدينة قذرة بدون الناس الذين يتسببون فى هذه القذارة!
ثم سألتنى : وماذا عنك؟ كيف حال المدينة والناس؟ لم أجد إجابة للسؤال. إكتشفت أن بساطة السؤال لا تعنى بالضرورة سهولة الإجابة. لم أعرف كيف أبدأ أو من أين أجيب وأقص عليها الحكاية. المقدمات والأسباب والأعذار. ولكنى فعلت ما أجيده تماماً فى تلك المواقف وهو الهروب.
نهضت من مقعدى وضعت حساب الطعام على الطاوله والمزيد لصحبتها وقلت لها لابد أن تبحثى عن عمل آخر. وإنصرفت
مضت الايام التالية رتيبة كليالى الشتاء الطويلة. حاولت أن أرتب إجابة السؤال السهل الصعب وعندما شعرت ببعض من الرضا عن ما سوف أسوقه إليها، ذهبت إلى المقهى وجلست على نفس الطاوله ولكنى لم أراها. كررت الزيارة مرات عديده فى مواعيد مختلفه ولكنها إختفت. ربما أخذت بنصيحتى ووجدت وظيفة أخرى وربما كانت هذة علامة من السماء بأن إجاباتى لازلت غير مقنعه.
No comments:
Post a Comment