باريس .. تلك المدنيه الساحره التى يكرهها ساكنوها ويعشقها زائروها. مدينة الجن و الملائكه ذات الروائح العطره والنهود النرجسيه المستديره . كان دائم المقارنه بين نهود نساء باريس و بين جنود نابليون و هم عائدون من معركة ما ويمشون في اختيال المنتصرين و فخر الفاتحين يردون تحية من أتي لاستقبالهم عند قوس النصر. كانت النهود كالجنود؛ ممشوقه بارزه .لا يتذكر من زيارته لباريس غير تلك المقلمة القطيفيه التى إشتراها من متجر بسيط لأدوات الرسم والفنون. ويمكنك القول أنه لا يريد أن يتذكر تلك الرحله. ولكنه كان يعبث فى أشيائه القديمه فوجد تلك المقلمة التى ربما شهدت على لحظات قصيره جميله و ساعات طويله تعيسه. ليس ذلك المهم، فالماضى قد ولّى ورحلت معه ذكرياته حلوها و مرّها وبقيت المقلمه و ما تحويه من أقلام نادره. اخذ المقلمه من صندوق الذكريات القديم و مسح ما عليها من اتربه و وضعها بعنايه على مكتبه و على وجهه سعادة الأطفال بلعبة جديده. ذلك المكتب الذى شهد لحظات الصعود والهبوط، الإنتصار والإنكسار، التقوى والفجور. كان المكتب فى موقع استراتيجى فى غرفته الصغيره التى صنع منها غرفه للكتابه. كان المكتب مواجهاً للشباك الوحيد للغرفه التى تطل على البحر . كان يجلس على مكتبه ناظرا للبحر من الشباك وظهره لباب الغرفه . كان موضع جلسته فى مكتبه كناية عن حياته و منهجه فى واقع الدنيا القبيح. فكان إعطاء ظهره لباب الغرفه هو الإشاره لعدم الترحيب بأى شخص مهما كان و كان وجهه ناظراً للبحر هو الحياة و الكينونه بالنسبه له. كان بينه وبين البحر لغة خاصه لا يفقهها إلا هو. تلاطم الامواج و نحتها فى الصخور لم يكن سوى حديث و نقاش وجدال بينه وبين البحر و ملكوته. كم ألهمهُ هذا البحر قصص و حكايات. كم ألهمته هذه المواجات كلمات لم يكتبها كاتب أو يستوعبها عقل. انها لغة الكبار و حوار العظماء. كان جبروت البحر بالنسبه له مجرد زوبعه فى فنجان صغير. كان لا يخشى البحر بل يأمره فيطيع، يكلفه فينفذ، يسأله فيأتي صاغراً. كان دائما يقول لنفسه كيف للحروب أن تقوم و فى الدنيا بحور ؟ ، كيف للعشاق الفراق وفى الدنيا بحور ؟، كيف هناك كراهية في النفوس و فى الدنيا بحور؟
لم يتذكر السبب الرئيسى لشراء المقلمه ولكنه لم يهتم بالتفكير فى سبب محدد. وهل أعظم من الكتابة نفسها سبباً لشراء مقلمة أنيقه و أقلام ثمينه؟ كان ذلك كل ما يفعل فى حياته: الكتابه . كان كاتب بارع ذو خيال بلا حدود او قيود. إتُهم بالكفر والجنون والفجور و لما لا وهو من صنع من الحبر و الورق اشخاص و ارواح تكاد ان تلمسها و تتحاور معها. تذكر انه عندما إشترى المقلمه كان يود فى كتابة شئ خاص بحروف نوريه لم تخلق بعد، فقرر أن يكتب لها خطاب غرامى به أشعار مسحوره يوصف فيه لوعة الإشتياق ولكنه عدل عن الفكره فهي ماتت بالنسبة له ولا تعني شياً أو ربما يكتب إعتذار أو عتاب لشخص قد جرحه و آهانه منذ عقود . و لكنه لم يفعل فالاعتذار من الضعف والعتاب لمن ودّ الاتصال و هو من قطع رحم كل عزيز و غالي. ربما كتب طلباً للعفو و ترجىّ للمغفره . ترجيّ ماذا و مغفرة من منْ؟ و هو من خلق من الحبر و القلم عبيدا ..ترك المقلمه على مكتبه و نهض من على مقعده و أشغل سيجارة و نظر الى البحر آمالاً أن يلهمه ما سيقوم بكتابته
أخذ انفاساً متتاليه من سيجارته ليصنع سُحب زرقا بلون البحر. كثرت الأنفاس و تراكمت السحب في غرفته و تعالت امواج البحر غضباً. اطفأ سيجارته و جلس علي مقعدة يشمر عن ذراعيه و علي وجهه ابتسامه من وجد هدايته وغايته بعد الضلال، فتح المقلمه وأخذ منها قلم اسود، و في منتصف صفحة بيضاء كتب : وصيتي
No comments:
Post a Comment