استيقظ من نومه على زقزقة العصافير وصوت اوراق الاشجار عندما تضاجعها نسمات الهواء الصيفيه. انه يوم جميل بلا محاله. ينظر من شباك منزله الجميل الذى اختاره بعيداً عن ضوضاء المُدن وعلى وجهه إبتسامة المنتصر. يتطلع الى تلك الحديقه التى زرع فيها اجمل الزهور وابهجها. اللعنه على المُدن وسُكانها وشوارعها . اللعنة على الزحام والتلوث والناس جميعاً. فتح الباب وهو يرتدى روب النوم الحريرى الفاخر. أخذ جريدة الصباح من على عتبات المنزل ونظر الى صندوق البريد ووجد فيه خطاب. لا احد يعرف عنوانه فقد هرب من الناس والقيل والقال وكل طرق التواصل. اللعنه على كل انواع العلاقات الاجتماعيه والظروف والأعذار بل على علم الاجتماع ومن اخترعه. فتح الصندوق ليجد خطاب مظروفه أزرق بلون السماء الصافيه التى لا يشوبها سحابه. نظر الى الخطاب ووجده مُرسل الى شخص يدعى عوّاد. العنوان صحيح ولكن لا يسكن معه عوّاد بل لا يسكن معه أى روح اخرى. انها الوحده التى فضلها على العالمين. انها راحة البال التى طالما طرق بابها طالباً و تودّد منها
نظر الى الجانب الاخر من الخطاب ووجد انه مرسل من فتاة إسمها منى. هو لا يعرف منى ولا عوّاد. هل أخطأ ساعى البريد؟ ربما. فالرجل اسمه عماد والمرسل اليه اسمه عوّاد. ربما أخطأ فى حرف. ولكن لا يوجد أسم العائله على الخطاب. ربما ..ربما .. هناك الف ربما وربما ولكن من هى منى؟
لما الحيرة الآن وقد بدأ اليوم جميلا؟ لما الاهتمام بشئ لا يعنى اى شئ بالنسبه له؟
أيفتح الخطاب ليرى ما بداخله؟ لا.. من غير اللائق التطفل على أسرار العباد. ولكن ماذا لو كان بالخطاب كنز او دليل الى ثروه بثقل الارض والسماء؟ حقاً اذا كان كذلك ، سيكتمل جمال اليوم. ولكن ماذا لو بهذا الخطاب شئ خطير يستحق التحرك الفورى
ولكن ماذا هو بفاعل اذا كان لا يعرف من هى منى ومن هو عوّاد.. ولكنها الإنسانيه والواجب عندما يستدعيان التصرف والعمل لإنقاذ شخص ما فى ورطة اومصيبه.
إذن لابد من فتح الخطاب. كيف لمنى أن ترسل خطابها بدون عنوان؟ لو كتبت العنوان لارسله اليها وحُلّت المشكله.
انها الحيره التى تطرق بابه كلما هرب منها وعزف عنها. فمازالت الحيره تطارده رغم بعده عن جميع الناس واختياره لذلك المنزل الذى يبعد اميال عن كل ما يعرفهم من البشر. اللعنه على منى وعوّاد ومصلحة البريد بل اللعنة على الحكومه والشعب والقوانين.
يضع المظروف على مؤخرة مكتبه العاجى الثمين الذى يتسخدمه للكتابه. فذلك كل ما كان يقوم به – الكتابه. يجلس على مقعدة ناظراً الى ذلك المظروف وكأنه شئ مسحور ينتظر أن يخرج منه عفريت أو جنىّ يأمره بماذا يفعل. يتحرك فى غرفة مكتبه ذهاباً وإياباً ناظراً الى المظروف وما يحويه من سر.
ربما كان شئ ذا قيمه ومقدار وربما كان لاشئ سوى حروف ضائعه على ورقة بيضاء عكرها الحبر وجار على عُذريتها. لا احد يعلم قيمة الحروف ومعنى الكلمات وقدسية الاوراق مثله. ولكن كيف له الجزم عن ما يحويه المظروف وبينه وبين الحقيقه ذلك الصمغ الذى ختم طرفي المظروف وكأنه صك من صكوك الغفران. اللعنه على شركة الورق ومن صنع المظاريف.اللعنه على الشجره التى إستخرج منها الصمغ، بل اللعنه على الطبيعه جمعاء. بالماضى كان الناس تكتب على جلود الحيوانات وأوراق البردى فلا خصوصيه ولا أسرار ولا صمغ.
أشتعلت فى رأسه فكرة شكرى سرحان فى فيلم البوسطجى وكيف أنه استخدم بخار الماء المغلى ليتحايل على الصمغ ويفتح الخطابات لقرائتها والتملق فى اسرارها. ولكنه سرعان ما تراجع عن تلك الفكره الغير أخلاقيه. اللعنه على شكرى سرحان وحسين كمال وصلاح منصور ويحيى حقى وصبرى موسى بل اللعنه على صناعة السينما جمعاء.
ما الحل اذن؟ تمر الساعات بسرعة حياة شخص عربيد ومازال المظروف الأزرق يرقد على مؤخرة مكتبه وكأنه جبل عتيق ثابت لا يتحرك. ماذا يفعل وماذا اذا كانت منى فى خطر وتستنجد بعوّاد؟ ماذا لو ماتت والدة عوّاد او والده وفى هذا الخطاب الخبر اليقين؟ ماذا لو أن منى فى ازمة ماليه وتستجير بعواد كى ينقذها؟
تحول عماد من القهوه الى البيره التى سرعان ما تحولت الى الويسكى والكونياك وعودة غير محموده الى السجائر التى اقلع عنها منذ فتره.. الساعات مازالت تطير ومعها تطير رأس عماد التى اصبحت بفعل الخمور كريشه فى عاصفه ترابيه ومازال الخطاب قابع على صدره وكأن هموم الدنيا ومشاكلها قد تجسدت فى هذا الخطاب.
فجأه وبفعل ساعى البريد، اصبح الهدوء الذى كان ينعم به عماد ويتفاخر به ماهو إلا سراب. هشيم تذروه الرياح ..غثاء كغثاء البحر.انها مشكلته الابديه : الخطأ والصواب ..الأخلاقى وغير الأخلاقى ..الحق والباطل ..التقوى والفجور. ربما كان الموضوع برمته ابسط من ذلك بالنسبه لأي شخص أخر ..ربما لم يستدعى الأمر كل هذا التفكير والحيره
مرت الأسابيع وعماد لما يغادر غرفة مكتبه. اهمل الحديقه وماتت زهورها. المظروف الازرق مازال يحتل الحيّز الاكبر من تفكيره، أمتلأت غرفة المكتب بزجاجات الخمور الفارغه واعقاب السجائر. تغير لون الروب الحريرى واصبح متسخ . لم يحلق عماد ذقنه لأسابيع بل أنه لم يستحم منذ اليوم الذى لمستب فيه يديه ذلك المصروف المنحوس
اصبح عماد شخص آخر وجسد بلا روح ، جلس على نفس المقعد مواجهاً المظروف الازرق الذى غطى التراب معظم اجزائه. نظر عماد من مجلسه الى الشباك ورأى الزهور التى كان يعتنى بها كيف ماتت وضاع ريحيقها. راى كيف ان حديقته النظيفه اصبحت منتجع لإستقطاب القاذورات. وضع عماد رأسه الثقيله بين يديه المرتعشتين واغلق عينيه لبضع ثوانى وكأنه كان فى استقبال هاتف من السماء أو ملك رسول برساله مقدسه تحتوى على ما يجب فعلة وتدبيره. ابتسم عماد للمظروف الأزرق ابتسامة حلاوة الروح او الاستسلام ، فتح الدرج الايسر لمكتبه واخرج منه مسدس ووضع فوهته فى فمه: اللعنه على عواد ومنى والاخلاق
طارت العصافير التى كانت تغرد على فروع الاشجار عندما سمعت صوت الرصاصه القبيح. واصبح البيت بلا روح، بلا زهور، بلا عصافير ويبقى المظروف الازرق على المكتب وحيداً منتصراً
No comments:
Post a Comment