بناء على
طلبك أنت، ها أنا ذا أمسك القلم وأكتب لك جواب السفر. لم أستسلم لعهدى وطقوسى عند
الكتابه. لم أرصص الأفكار وأزن الأفعال أو أختار من المعانى أجملها وأصفاها. لم
أشعل سيجارة الحكمه، أو أصنع فنجان القهوه الذى يبقى معى ساعات وساعات وفى صباح
اليوم التالى أشرب ما تبقى منه باردا.
أرتدى
ملابسى قطعة تلو الأخرى، لم أعبأ بتناسب الألوان فيوم السفر دائما طويل، فالمهم هو
الراحه وليس الشياكه والموضه والتناسق. هو نفس الشورت ونفس الشبشب اللذان جالا
وصالا معى من مشارق الأرض إلى مغاربها. أحمل من الحقائب أثقلها. لا يوجد بهم أى شئ
خاص بى سوي شاحن اللاب توب وقليل من الملابس الذى أعلم مُسبقاً أنها لن تكفى وأنى
سأقوم بشراء المزيد منها عند الوصول. لم يوجد بالحقائب مكان لملابسى وكل مابها
للغير، هو أهم وأسمى. هو حالى منذ أعوام. لا أشكى منه ولا أطلب تغيره وإستبداله
بشئ آخر. فى الأصل، كانت البدايه حقيبه واحده ثم أصبحت أثنتين. وبمرور الزمن وجب
على عدد الحقائب أن يتكاثر ويتضاعف لمجرد قدوم أشخاص جُدد إلى عالمنا التعيس. لم
أحضر ميلاد أى منهم ولم أُصدْق أو أوافق على وجودهم ولكنهم حجزوا مكان لهم فى
حياتى.
بعد صراع
طويل بين الحقائب والأسانسير، إستطعت بكل نجاح أن أصل إلى مدخل العماره فى إنتظار
التاكسى الذى سيأخذنى الى المطار. إنتظرت فى الشارع أنظر الى الحقائب المتراصه
جابنى بدون أى إعتراض. خلال إنتظارى، حضرت سياره مكتوب على جانبها " خدمة
توصيل الوجبات الجاهزه الى المسنين تحت رعاية قسم المسنين بالمدينه" لم أعرف
قبل تلك اللحظه بوجود قسم للمسنين تابع للمدينه أو الحكومه ولا أدرى لماذا تفاجأت؟
ولما أتفاجئ بأى شئ فى هذه المرحله العمريه من حياتى.
رأيت
سيده تحمل الوجبه الساخنه وتدخل العماره المجاوره وفكرت كثيرا فى هذه الخدمات.
الحق أقول أنى سعدت جدأ بأن هناك مثل هذه الخدمات وأن يجد المسنون مثل هذه
الرعايه. ومع هذا الشعور بالسعاده إنتابنى حزن شديد لأنى تراضيت وأقنعت نفسى بأنى
سوف أكون وحيداً يعيش بمفرده فى شقه صغيره منتظراً الوجبه الساخنه من خدمات
المسنين
حضر
التاكسى الذى إتصلت به ، وكالعاده كان السائق عجوز، قديم كقدم الشمس والقمر،
متهالك لا يستطيع رفع حقيبه واحده من على الأرض. وكالعادة أيضاً سأقوم أنا بحمل
جميع الحقائب ولا يبقى شئ سوى أن أقوم بقيادة السياره بنفسى. لا أجد سبب مقنع على
الإصرار على نفس شركة التاكسى التى أتعامل معها لسنوات. فمتوسط أعمار السائق حوالى
سبعين سنه ! أعتقد إنها العشره والإصرار على الماضى وكل ما هو قديم. أنظر خارج
السياره وأتذكر ماذا سوف أكتب عن الطريق. فلا جديد فى هذا الطريق القديم الجديد.
فلو إستطاع هذا الطريق التحدث لإشتكى خطواتى ورحيلى عنه كل بضعة شهور. أقطع
المسافه من منزلى إلى المطار فى دقائق معدوده. لم أرتاح بعد من معركه الحقائب
والأسانسير. وجب علىّ الآن حمل الحقائب داخل المطار للميزان. ساعدنى السائق العجوز
بعد أن دفعت له بقشيش أكثر من قيمة الأجره الأصليه. فهو فى نهاية الأمر مُسن عجوز
وربما يحتاج إلى وجبة ساخنه فى يوم ما. وربما وصلت أنا إلى حالته تلك التى جعلته
يعمل فى مثل هذا العمر.
وقفت فى
طابور منتظرا ان يعطف علينا موظفو مصر للطيران ويبدأو العمل. وجوه تعيسه تعمل فى
هذه الشركه. وكأن الإبتسامه ممنوعه أو حُرّمت عليهم. بجوار مصر للطيران توجد شركه
طيران الكاريبى. وشتان الفارق بين تلك الإبتسامه التى تحتل الوجوه هناك وبين لكآبه
التى سيطرت على موظفى مصر للطيران. أعتقد أن أهم سبب من أسباب كساد السياحه فى مصر
هو تلك الوجوه التى عملت فى مصر للطيران بالواسطه والمحسوبيه. هؤلاء يجعلونك تشعر
وكأنك خادم عندهم وأن أفضالهم هى سبب وجودك فى الحياه. ليس ذلك بالمهم الآن، فأنا أعلم أن ما أكتبه إليك الآن
لم يكن هو ما ترجوه وتحلمى به عندما طلبتى أن أكتب لك جواب.
تمت مهمة التخلص من الحقائب بنجاح ولا يبقى سوى حقيبة
اللاب توب. الآن أشعر بنوع من الحريه. لم
يبقى سوى الإنتظار ودخول الطائره بعد أن أشتريت السجاير لبعض الأصدقاء وشيكولاته
لك. أجلس جارج الجيت منتظرا، يجلس بجوارى شاب عبارة عن شنب كثيف جدا وحواجب أكلت
نصف وجهه. تبدو من ملامحه القسوه والعنف وأنه لم يقم بزيارة الحلاق منذ عقود. كان
يتحدث فى تليفونه المحمول عندما جلس جوارى. سمعته يقول لمحدثه : طاب قولي لى يا
بطه (ضحكه رقيعه). طاب قولي لى يا بيبى (صوت به درجه من المياصه تعقبه ضحكه
رقيعه). لم أجد سوى إستعاره كلمة شهيرة من الفلكلور الإسكندرانى تتكون من ثلاثة
أحرف أ ح أ. والظاهر أنى نطفتها بصوت عالى ومسموع جعل الشاب الشنب يقوم من جوارى
منزعجاً بخطوات تشبه خطوات البطه السودانيه ذات الأفخاذ السميكه. وضعت سماعتى على
أذنى لطفاً بى وبالمسافرين حتى لا أسمع مكالمة أخرى أو أقوم بتعليق آخر.
دخلت الطائره وإتخذت مقعدى ولازلت أتجاهل ما يدور من
حولى من عنف مقصود من المسافرين تجاه أماكن تخزين الحقائب فى الأرفف العلويه. سمعت
من يشكو لصديقه بأن حقيبته دائماً كبيره ولا يمكن له وضعها فى المكان المخصص، كدت
أن أقوم من مقعدى وأرزعه على قفاه سائلاً : ولما تحضرها من الأصل إذا كانت تعرف
أنها زائدة الحجم. ولكنى عدلت عن هذه الفكره التى طالما راودتنى فى مواقف عدة.
تمتلأ الطائره بالبنات الجميلات من كل شكل وصنف، كحديقة
بها من البهجه ما يسر الأعين ويبعث الطمآنينه فى الأفئده. ولكن حظى التعيس دوما
يجلس بجوارى رجل، أخذ كرشه معظم مقعدى وجاء إلى الطائره وكأن هدفه أن يعرف أدق
تفاصيل حياتى. المجد للسماعات والتجاهل
ختاماً، وفى هذه اللحظه وأنا بين السماء والأرض، لا أعرف
أين بالتحديد ولكنى أعلم فى أعماق قلبى بأنه مكان خاص جداً لا يعلمه أحد غيرى،
فلقد نام الكون ولم يبقى سواى. أعترف دون خجل أو مرواغه بأنى مشتاق إليك وبك. أجد
فيكى التاريخ رغم عمرك الصغير وسنواتك المعدوده وأشعر بالأمان والدفأ فى ذلك الحضن
الذى لا يحتوى سوى قلب عصفوره. لك خالص الود ، ومن قلبى الحب كله
No comments:
Post a Comment