(١)
عندها فقط أستيقظ من غفوتى ومنامى، سمعت شيخ المسجد
النصف مشهور يصرخ من أعماق قلبه " كريدت كارت إيه اللى عاوز تسرقه يا حمار..
الناس هنا حتى ولو كفار زى ما بتقول، دخلوك بلادهم آمناً سالماً، والفيزا اللى إنت
دخلت بيها على بسبورك هنا، تعتبر عهد بينك وبينهم. فكيف تخون العهد؟ يا حمار"
كلمة " ياحمار" كان لها رنين موسيقى خلاّب.
فكانت الكلمه تسافر بين جدارن المسجد الرخاميه العاليه فى رشاقة وخفة راقصه باليه،
ثم تعود الكلمة بسرعة البرق لتلسع الشاب سائل السؤال على قفاه السميك كالسياط.
تغيرت طبيعة الأسئله التى يتم تداولها فى المساجد، بل
تغير المساجد نفسها. لا أجد نفسى فى مساجد " الآن" الكتل الخرسانيه على
هيئة أعمده ضخمه تجعلنى صغير جداً، نقطه فى بحر مظلم. الأراضى السيراميكيه قبيحة
الألوان التى تخلو من الشعور الروحانى والألفه. جدران الرخام البارده التى تشعر
بأنين التكيف فى بلاطاتها الساقعه. المآذن الشاهقه التى تحمل تلك السماعات، التى تخلق
صدى قبيح للصوت ينتزع منه وقاره وجلالته. لم أكره فى حياتى علامات الرأسماليه قدر
ما كرهتها متجسده أمامى فى مساجد " الآن" .
(٢)
أشتاق إلى ذلك المسجد الأبيض القديم فى قريتى الصغيره.
ربما كانت جدرانه متهالكه معماريا، ولكنها عامره بالإيمان الأبيض البسيط وهمهمة
المنشدين العتيقه والصمت البليغ للعارفين بالله. يتوسط المسجد مزارع البرسيم
الخضراء فأصبح كمركب مرمري فى بحر أخضر. تحيطه من ثلاثة جوانب ترعة وقنوات رفيعه
مياؤها رائقة اللون فجعلت منه واحه إيمانيه
أو جزيره صغيره للتعبد بعيده عن كل مظاهر الدنيا. درجات بسيطه تأخذك إلى
ساحته حيث تختفى الاعمده والنجف والسجاجيد. بابه مفتوح دائما، فلا يوجد أمن أو
كاميرات مراقبه فالحارس هو الله كما يقول دائما عامل النظافه والموظف الوحيد بالمسجد
بجانب الإمام. عامل النظافه الذي يعمل بدون أجر أومقابل أو تأمين صحى، فى الأصل
فلاح يهمل حقله وزرعه وحرثه أوقات الصلاه وفى المساء يتطوع لنظافه المسجد بصدر
رحب. تعلو وجهه الذى أصابته تجاعيد الخبره والسنين إبتسامه صدق لا يشوبها خبث أو
ضرار. فاذا أردت البحث عن مرادف لكلمة "طيب" فضع مكانها وجه الفلاح
البشوش التى كتبت الشمس على بشرته تاريخ الإنسانيه بقلم دقيق واضح. يدخل من
الشبابيك الخشبيه المفتوحه هواء عليل، به رائحه الخُضره والمياه بعدما مسهما شئ
مسحور من رحيق العسل القادم من المنحل المجاور للحقول. تغريدات العصافير الغير
مرئيه تخلق سيمفونيه رائعه مع نغمات الموسيقى الربّانيه الناتجه من أوراق شجرة
الكافور القديمه عندما تضربها الرياح.
(٣)
أعود من أحلام اليقظه التى أخذتنى آلاف الأميال إلى
المسجد المرمرى، الآن تغيرت كلمة يا حمار إلى يا حرامى. مازال الشيخ النصف مشهور
يوبخ صاحب القفا السميك، تداخلت الاصوات
بين مدافع عن الحمار الحرامى وبين مؤيد لكلمات الشيخ. مازالت البلاطات الرخاميه
تحمل الكلمات فى يسر وجعلتها تطوف أركان المسجد بغير حجاب أو حساب. رنّات التليفون
المحمول تخلق ضوضاء قبيحه رغم التعليمات الصارمه على جدران الحوائط باللغه
الإنجليزيه لغلق التليفونات. إزداد قفا الشاب إحمرار وأصبح رغم ضخامة جثته، نكره لا وجود له .
حاول الجلوس أو الإختفاء ولكن كلمات الشيخ اللاذعه مازالت تحّول كل الأنظار تجاهه
كنجم مشهور ذاع صيته. أبتسم الى البلاطات الخالية من الحياه وانا أنتشل نعلىّ من المكان
المخصص لهما، وأنطلق حراً طليقاً.
1 comment:
الله :)
Post a Comment