(١)
أحمل جعبة ملابسى المتسخه وأذهب الى المغسلة القريبه من
المنزل. نفس الروتين المُتبع فى ظهيرة كل يوم أحد. نيويورك، تلك المدينه
التى بلعت
كل اللغات والثقافات والأديان وصهرتهم جميعا وخلقت فى النهايه منتج غريب، بديع لا
يوجد فى اى مكان سواها. تجلس فى عربة
المترو فتسمع أكثر من أربع لغات مختلفه وترى القرآن والتوراة والإنجيل
جنباً الى جنب دون قتال أو حروب. فى التسعينات حيث كانت شبكة الإنترنت تأخذ خطوات
ثابته لليسطره على كل شئ. لا يوجد انتشار واسع للتليفون المحمول بعد ولكن على
قارعة كل شارع يوجد تليفون عمومى وكذلك فى مداخل المحلات التجاريه والمتاجر
والمطاعم. قلما خلا مكان من تليفون عمومى.
وضعت ملابسى فى المغسله وخرجت، واذا بشاب أسمر الملامح،
عربى المظهر - يتحدث فى التليفون الموجود بخارخ المغسله – ينادى على سائلاً اذا
كنت مصرى؟ تذكرت هدف مجدى عبد الغنى فى مرمى هولندا وجاوبته بفخر: نعم أنا مصرى.
(٢)
سألنى اذا كنت أريد أن اكلم مصر فى التليفون. نظرت إلى
المغسله والوقت المتبقى بها حتى يتم الانتهاء من الغسيل، وأجبته بالموافقه. أعطيته
الرقم وقام بضرب عدة أرقام بعده وقبله وها أنا ذا اكلم الأهل فى الإسكندريه الحُره
. إختفى الشاب، وتكلمت أنا فى التليفون لبضع دقائق حتى شعرت بالذنب لطول المكالمه
ظاننا بأن ان هذا الشخص سوف يدفع فاتورة المكالمه من حسابه وقمت بإعلاق الخط.
فى اليوم التالى وانا فى طريقى الى العمل، وجدت هذا
الشاب يتحدث فى نفس التليفون بجوار المغسله. فألقيت عليه السلام وشكرته على كرمة
بالأمس. فسألنى إذا كنت أرغب فى عمل أى مكالمه ولكنى شكرته معتذرا بأنى فى طريقى
الى العمل . وهنا ساورنى الشك فى هذا الشاب . فالمكالمات الدوليه فى هذا الوقت
كانت اسعارها باهظه وهو كل يوم يقضى ساعات يتحدث فى التليفون ويعزم كل من مر
بجواره. عرفت بعد ذلك من بعض الأصدقاء بأن هذا الشاب اسمه حسن وانه متخصص فى سرقة
خطوط التليفونات الدوليه. وبعشر دولارات تتحدث مع اهلك جميعا ثم الجيران ثم
العماره المجاوره وبعد ذلك الشارع كله والحى والمدينه ولاحقاً بإمكان والدتك ان
تتصل بأقاربك فى الأقاليم لكى يأتو يتحدثو معك. وبعد أن تنتهى من الحروف والجمل
والمعانى والكلمات يصعب عليك أن تغلق الخط من كثرة البُخل وشدة الإستخسار، فتعزم
على أى شخص مار بجوارك ان يتحدث هو الأخر.
تطور الموضوع، فوجدت فى يوم ما كرسى بحر وشمسيه بجوار
التليفون لأن الناس أشتكت لحسن من الوقوف
لساعات طويله تحت الشمس والمطر! وفى يوم آخر وجدت عربية هوت دوج وسندوتشات فتحت
بجوار التليفون. وفجأه أيضا وجدت شاب صغير
يقوم بتنظيم الراغبون فى التحدث وإستخدام الهاتف وحسن جالس تحت الشمسيه يدخن
الشيشه وفى يديه مجموعة من الدولارات منظمه ومُرتبه وكأنه منادى فى محطه مصر يقوم
بجمع الكارته.
(٣)
نيويورك هى نيويورك بسحرها وشقائها وغناها ومالها وفقرها
وعنفوانها وضعفها، إلا هذا المقطع من
المدينه الذى سيطر عليه حسن وأعوانه. أصبح التليفون الحكومى مصدر دخل للعديد من
الناس. وأصبح مدينة داخل المدينه، ومجتمع آخر لم يفكر أى منهم نوعية الدخل أذا كان
حلال أو حرام ، مباح أو ممنوع. كل هذا لا يهم طالما أن هناك دخل فى نهاية اليوم.
تذكرت حسن اليوم، بعد سنوات مرت عندما أخذتنى قدماى إلى مكان التليفون الذى مازال
موجود فى مكانه ولكنى لم أجد حسن أو شمسية البحر وعربة الهوت دوج. تسآلت عن حسن
وأمضيت وقتاً ليس بالقليل أفكر أين هو الآن وماذا يفعل؟
No comments:
Post a Comment