في عشق الورق الأقلام

هو السبب. هو من علمنى  حُب الورق وعشق الأقلام. كان دائماً وأبداً يحتفظ بقلم أو قلمين فى جيب قميصه. ربما نسى تليفونه، أو حافظة نقوده أو حتى مفاتيحه و بطاقة هويته عندما يغادر المنزل، لكن من المستحيل أن يخرج بدون أقلامه.
كنت أنتظر عودته فى الظهيرة حتى أتصفح الجرائد اليومية التى يحضرها معه. لم أكن مشتاقاً لقراءة الصحف والأخبار قدر إشتياقى لرؤية ما قد رسمه على حواف  الجرائد أثناء قرائتها. كان رسّام بارعاً، ولكن الرسم فى وقت نشأته وصباه ليس بوظيفه أو حرفه تفتح بيوت وتعيل أسره. فلم يتخذ من الألوان مهنة رغم شغفه بها. كنت أقلب الصفحات  وأرى كيف رسم رأيه فى كل موضوع قرأه. أقوم بقص أطراف الجرائد وأحتفظ بالروسومات التى أصبحت يوماً بعد يوم تمثل إعتراضه على الحالة السياسية أو تأيده لثورة إجتماعية يحلم بها.
 بدأت أشترى له قلم من كل بلدان العالم التى أزورها. يأخذ الأقلام وينحنى جانباً يجرب طريقة مسك  القلم فى يده. يبعده عن عينيه بضعة أشبار وينظر إلى القلم بعد أن يقلبه ذات اليمين وذات الشمال ليتأكد أن وزنه مظبوط ، فهو ليس بالخفيف أو الثقيل. بعد أن يطمأن ان القلم يليق بقبضة أصابعه ، يبدأ فى طقوس تجربة الخط بشخبطه غير مفهومه، ثم يتبعها بكتابة إسمه بخط الرقعه ثم الثُلث، ثم توقيعه عدة مرات متتاليه فى شكل عمودى. ينظر إلى القلم عدة مرات وهو فى يده ثم يبدأ بعد ذلك فى الإمتحان الأعظم الذى بعده يقرر مصير هذا القلم، إذا كان فعلاُ  يحبه أم أنه سيقبله  فقط كتطيب لخاطرى. فى حركات بطيئية موزنة يبدأ فى الرسم ! عندها فقط ، يبتسم إبتسامة الرضا و يذهب إلى ذلك الصندوق الصدفىّ المسحور. يضع القلم بجانب أقرانه ثم يسألنى كيف كانت الرحلة وحمداّ لله على السلامة.
 عندما زارنى آخر مره فى نيويورك، قد تم إفتتاح محل عملاق من ثلاثة طوابق لا يبيع أى شيئ سوى الأقلام وأدوات الرسم.  طلبت منه ذات صباح وأنا ذاهب إلى عملى أن يأتى معى ليرى مكتبى الجديد. لم أحكْ  له عن محل الأقلام أو عن خطتى التى رسمتها لأبعث بعض من السعادة التى قضى حياته يبعثها فى نفسى. عندما دخلنا المحل، رأيت فى عينيه نظرة طفل يدخل ديزنى لآند أول مرة ليقابل كل أبطاله الذى طالما حلم بهم وبصحبتهم! تركته فى ديزنى لآند الأقلام، وذهبت إلى عملى صباحاً، لم أره إلاّ فى حوالى الحادية عشره مساءاً بعد أن أغلق المحل أبوابه . سألته عما إشتراه. قال ليس بعد. هى زيارة تعارف مبدأية، غداً أعود أشترى. قضى ثلاثة أيام متواصلة يذهب إلى محل اأقلام وفى اليوم الرابع إشترى ما إشتراه من أقلام وأوراق وألوان وجبال من البهجة.
رحل هو، وترك لى الصندوق بأقلامه  أنظر إليه بين الحين والآخر وأتذكر كم السعادة التى تسكن جدرانه.أكتب كل ما سبق بسبب سطرين كتبتهم إهداء إلى روحة فى مقدمة مشروع كتاب. سألنى الناشر بالأمس لمن تحب أن تهدى الكتاب ؟ مسكت القلم وكتبت بيد مرتعشة: إلى من علمنى حب الورقة والأقلام، لقد إعتزلت الكثير من مظاهر الحياة بعد رحيلك، إلا الكتابة لم تهجرنى!
نُشرت فى موقع كسرة 

No comments: