(١)
حتى البحر، ظهرت عليه آلاء السقوط. أصبح وحيداً مثلى يكابد علامات الشيخوخه محاطاً بمبانى قبيحه. الطريق من ميامى إلى سيدى جابر فى هذا التوقيت من الفجر دائما كان رائع. عندما أمتلك الكورنيش والشاطئ بمفردى. الآن إحساس جديد بأن الحبال القويه التى كانت تربطنى بهذا لشاطئ قد تقطعت وتلاشت .طقوس ليلة السفر لم تتغير، أقوم بقص شعرى فلا أجعله قصير فهى تحبه طويل لأسباب لا يفقهها إلا هى. يكتشف الحلاّق شعره أخرى بيضاء، جديده، طويله قويه قائمه بمفردها فى عناد وتحدى. أتذكر أول مره أكتشف شعرة بيضاء فى شعرى وذهبت مهرولاً إليها بأن العمر قد وليّ ولم يبق منه قدر ما قد فات، إبتسمت نافيه، وقالت كلا: بل هناك أربع شعرات بيضاء وليست شعرة واحده! آمنت لها وإستسلمت فهى تعرف كل شئ، حتى عدد شعرات رأسى ،فهى تعرفها أكثر منى
(٢)
إنتهت التشطيبات والإصلاحات فى محطة سيدى جابر، هى الأخرى تغيرت وأصبحت أجمل. لم أهتم من قبل بجمال الأشياء أو قبحها ولا أدرى ما قيمة شئ جميل يتوسط القبح؟ صوت منادى القطارات الداخلى به ألفه معهوده. لم أقابله ولا أعرف شكله ولكنى أحب أن اسمع صوته عندما ينادى عن قطار الإسكندريه المتجه إلى القاهره القائم من على رصيف 3، أشعر بأنها رسالة خاصة بى وحدى. أشعر بأن هناك قاهرة أخرى يحجّ إليها كل البشر. أما أنا فلى قاهرة أخرى ، خمريه كحنين الماضى وصدق المبشرين، ناعمه كورقة شجر لمسها ندى الفجريه ،برونزيه كرمال عانقتها الشمس لعقود، سمراء بلون القهر ودعاء المظلومين، بسيطه ،قويه ،ضعيفه، عاقله كالأم، مجنونه كالعاشقه، دافئة تبعث فى نفسى قوة الجيوش وجسارة الفرسان.
(٣)
أجلس على مقعدى متأملاً من الشباك منظر الحقول الخضراء الجميله التى تتناقص مساحتها فى كل زيارة . أرغب فى أن اقفز من القطار إلى تلك المزراع الخضراء وأن أنطلق فيها مدافعا عن قدسيتها التى إنتهكت من الكتل الخرسانيه والطوب الأحمر. كانت المزارع الخضراء دوماً وابدا هى مثال المعجزات والبساطه بالنسبه لى. أرض طينيه، حبوب، شمس ومياه. لمستهم جميعا قدرة الخالق فخرج هذا المنتج البديع. حتى هذا أصبح يتلاشى. وكأن الكتل الخرسانيه أهم من المعجزات ولمسات الخالق السحريه
(٤)
يصل القطار فى سرعة غيرمتفق عليها. ربما شعرت بهذه السرعه اليوم لأنى تمنيت عدم الوصول. كنت أصلى أن يصيب القطار عطل فنى غير قابل للإصلاح يكون سبب فى ألغاء الرحله. وأعود ضاحكاً على نفسى مقتنعا بأنى قد حاولت وشرف المحاوله يكفى. ولكنه وصل في ميعاده بالظبط. أصل إلى مدينة الرماد باحثاً عن النقطه الملونه لكنى لم أجدها. أذهب إلى ذلك المكان الذى كانت تتنظرنى فيه لأجده خالى رغمه زحامة بالبشر، كان ساكن، هادئ، صامت رغم الضوصاء وصفير القطارات. أخذت التاكسى الأبيض كما قد أمرت . فالغريب مثلى لا يأمن غير التاكسى الأبيض ذو العداد. أجلس فى المقعد الخلفى أنظر خارج الشباب إلى بحور البشر. حياة أخرى وعالم أخر. أول مره ألاحظ هذا الزحام. ربما تكون أول مره أنظر من خارج شباك التاكسى. لماذا لم أنظر من الشباك بالماضى؟ لماذا ألاحظ الآن كل هذه التفاصيل؟ الرحلة من محطه مصر إلى الأوتيل لم تستغرق دقائق معددوده.
(٥)
أدخل فى غرفتى لا أفعل أي شئ سوى الجلوس على مؤخرة السرير المنظم.غرفة الفندق الآن مجرد أربعة جدران مؤقته ليست بيتى وليست ملكى .الهواء البارد الناتج عن التكيف ينتصر أخيراً بعد أن كان مهزوما مغلوب على أمره من اللحظه التى تطأ قدميها أرض الغرفه. لمسة واحده من يديها الصغير تحول جبال الثلج إلى شموس ملتهبه. أنظر الى الأشياء المألوفه داخل الغرفه ولكنها بدت غريبه عنى. أنظر الى النيل من الشرفه فاذا به غاضباً منى يعاملنى بجفاء وكأنه أول مره يرانى. أنام على الجانب الأيمن من السرير، وأترك الجانب الأيسر مرتب منظم أمالاً فى معجزه. فى الثلث الأول من الليل، نزلت إلى كورنيش النيل، جلست على ذلك المقعد فى نفس المكان. أتت بائعة الفل الصغيره، إبتسمت لها إبتسامة الترجى " ألا تعرفينينى؟ أنا من إشتريت منك ثلاث وردات بالماضى". تجاهلتنى هى الأخرى نفس تجاهل النيل وجدران الغرفه. أذهب الى محل السمك .. الكشرى .. هذه القهوه البسيطه فى شارع القصر العينى .. الكافيه الآخر فى التحرير .. الأوبرا ..النادى الأهلى ..خان الخليلى ... محطة المترو.. تجاهلنى الجميع وكأنى نسياً منسيا
(٦)
بحلول الثلث الأخير من الليل أصبحت أسمع أصوات قادمة من أضرحة المشايخ وأهل البيت ومكتوبه على رسائل المحبين تأمرنى بأن أعود من حيث أتيت. فهذه هى القاهرة بدونها.وعدت وحيداً كفرع يابس تتخطفه الرياح.
No comments:
Post a Comment