(2)- مشمش ومقهى الخولعي و بيرة الشيخ زغاوة "النصف أعمى"
- كيف أُطلق على قريتنا إسم قرية الخوّاف يا شيخ زغاوة؟
- لماذا لا تسأل أبوك يا محيسن يا إبن بركات. هو أكبر منّا سنًا وأكثر أهل القرية مالًا وأعز نفرًا. وأنت بسم الله ماشاء الله أسمن من الثور الاسترالي وبلغت من العمر عتيًا ولازلت تافهًا
اهتز جسد محيسن بركات اهتزازات ضاحكة متتالية رجّت جسده البدين فرقصت ثنايا قفاه والشحم القابع أسفل ذقنه ليصنع ذقونًا عديدة دون أن يخرج مبسم النارجيلة من فمه فصدر عنه صوت خفيض كفحيح أفعى تحتضر. غاص الكرسي الخيزراني الذي يجلس عليه فى الأرض الطينية الرطبة التى غطت مقهى الخُولعي:
- لكن أنا أريد أن أسمع منك يا شيخ زغاوة
- سمعت الرعد في آذانك يا محيسن. إذا لم تتركني الآن سوف أترك المقهى وأذهب. أنا جالس بعيدًا والقهوة خالية لماذا لا تذهب وتجلس مع أشباهك من الثيران في غرفة الدش و تتركني فى حالي؟
كان الخولعي قد أحضر الينسون للشيخ زغاوة عندما سمع تهديده بالرحيل:
- ما عاش الذي يتسبب فى زعلك يا شيخ زغاوة. أنت بركة المكان
- راحت البركة فى ريح فضالي
- سوف يعود يا مولانا
- ترك البغلة
- لذلك سوف يعود. لابد أن يعود لها..لابد أن يعود لنا..مستحيل أن يتركنا
قال محيسن ساخرًا فى خبث:
- صدقت يا خولعي. لابد أن يعود البغل يومًا لبلغته
- خِف قليلًا على الشيخ زغاوة يا سي محيسن. الرجل مشتاق إلى صديقة
رمى محيسن ليّ النارجيلة فى غضب وقام من على الكرسي الغائص فى الوحل على فترات:
- حاضر يا خولعي. كلامي أنا فقط الذي يقف فى حلقك مثل الشوك! أنا ذاهب ولن أعود أبدًا إلى هذه البركة الوسخة. سلام عليكم
قام محيسن من مقعدة على فترات بعد أن أعاقة كرشة الذي ملأ جلبابه الأسود الثمين وبدأ يتحرك كفيل صغير على أرض وحلة. أخذ الشيخ زغاوة رشفة من كوب الينسون:
- لا سلام عليك أينما حللت. فى ستين داهية يا محيسن. ياريت لو صدقت الوعد هذه المرة وتمسّكت بكلمتك ولا تعود. ولكنك تعود لأنه لا مكان آخر يلمّك سوى مقهى الخولعي. ثمة غوالي لا يعودون ورخيص لا يزول يا ثور
غاب خيال محيسن وبلعه ظلام القرية الذي أطبق أجنحته عليها منذ عودة الفلاحين لديارهم. ثم ساد صمت مطلق يقطعه نقيق الضفادع القادم من مصرف المياه الذي يبعد عن القهوة عدة أمتار. بعدت القهوة عن القرية الصغيرة فاتخذت من مدخل البلد مكانًا قصيّا. فى الماضي القريب كانت القهوة مجرد عشة من الخوص يجلس فيها الخولعي هو وصديقه مشمش يشربان البيرة بعيدًا عن أعين أهل البلد التي ترقب كل شيء. أصبحت القهوة رغم بعدها عن البلد معْلْمًا من معالها بعد أن أقام الخولعي جدارًا بعد الآخر حتى تم البناء وصارت مقهي لا شريك له ثم بدأ الروّاد فى قصد عتبته. وعندما اشتري الدش الأوروبي تغير كل شيء فأصبحت هناك غرفة مغلقة تعرض اللحوم البيضاء والآهات المشتعلة التي يجلس أمامها الرجال لشحن البطاريات ثم ينطلق كل منهم إلى لداره لإفراغ ما قد تعلمه.
يجلس الشيخ زغاوة دائمًا فى موقع استراتيجي خارج المقهى على ربوة عالية مطلة على الشباك الوحيد فى غرفة الدش. بين الحين والآخر يسرق نظرة من خلال الشباك لرؤية ثدي ناهد أو فخذ مستدير أو ما يجود به الدش رغم أنه نصف كفيف أو هكذا يدعيّ ويعامله أهل القرية على أنه كفيف. لبس الشيخ زغاوة دائمًا جلباب رصاصي دارى فيه نحافته الواضحة وقصر قامته.ذو وجه مستطيل وعيون جاحظة يخفى ما تبقى من شعيرات رأسه القليلة تحت طاقية بيضاء. لا أحد يعرف حقيقة بصره أو عدد سنوات عمره إلا فضالي.
لا يعمل المقهى أحد إلا الخولعي، بينما يأخذ مشمش طلبات البيرة من الزبائن ويذهب إلى داره على دراجته،يضع زجاجات البيرة فى جيب جلبابه ويأتي إلى المقهى ويعطى كل ذي طلب حاجته. بين الحين والآخر يدّعي الشيخ زغاوة العمى الكليّ عندما يصب له مشمش كوب من البيرة ويقول له:
- اشرب يا شيخ زغاوة هذا شعير مفيد لصوتك وصحتك
ثم يضحك مشمش ضحكة أنثوية غنجاء. كان مشمش رفيع الصوت مكتحل العينين يعتني بحواجبه وجماله أشد الاعتناء. يأخذ الشيخ زغاوة الكوب يقول له:
- يا مشمش لطالما تشابه عليّ صوتك فلا أعرف اذا كان هو صوتك أم صوت شواهي. لعنك الله ولعن من يفعل بك. لك غنج لبؤة بكر
يضحك مشمش في فجور:
- ولكنك تراني يا شيخ زغاوة فكيف يخلط عليك صوتي من صوت شواهي
- بصيرة القلب ثاقبة يا زوج شواهي أما نظر العيون زائل وأنا لا أري شيئًا
- بل أنت ترى ما تحب رؤيته
- فليكن يا قليل القيمة. دعنى أشرب ماء الشعير في سكينة
يشرب الشيخ زغاوة منكرًا طعم البيرة ويقر في زمته بأن الذنب يعود على مشمش لا عليه. هو شرب على أنه ماء شعير ومشمش هو من خدعه.
زاد نقيق الضفادع وأخرجت غرفة الدش روادها وبدأ الرجال فى العودة عبر السكة الترابية المظلمة التي تربط البلدة بالمقهى. لا ترى حشود الرجال تمشي فى جماعة هكذا إلا عند الخروج من غرفة الدش أو فى الطريق إلى القرافة لتشيع فقيد أو فى الصباح عندما يقصد السواد الأعظم منهم حقول الحاج بركات أبو محيسن. همّ الشيخ زغاوة فى القيام فناداه الخولعي من داخل المقهي وهو يقوم بتنظيف المقهى:
- مهلًا يا شيخ زغاوة سوف أنتهى حالًا وأقوم بتوصيلك مثلما أفعل كل مساء فلا تحرمنى من صحبتك يا رجل
- سوف أتسند على عصاي الليلة يا مشمش. أنا فى حاجة للاختلاء بنفسي قليلًا قم أنت بإتمام عملك. لن أقع فى المصرف أو يأكلني ذئب وحتى إن حدث ما الذي يضير..لاشيء..يغيب الغائب ويترك الحيرة للآخرين.
تحرك الشيخ زغاوة من مقعدة بعد أن سحب عصاه وقصد المصرف. رفع جلبابه وقام بقضاء حاجته. صوت البول يضرب سطح مياه المصرف الراكدة والضفادع لا تتوقف عن النقيق. هّفت على الشيخ زغاوة ذكرى صديقه فضالي:
- لعنك الله يا فضالي. أين ذهبت ولما الآن؟
فُزع الشيخ زغاوة عندما سمع منادي ينادي من السماء:
- لا تلعنه
انقطع بول الشيخ زغاوة عندما رأي بغلة فضالي البيضاء تكسر ظلام الليل الحالك على الجهة الأخري من المصرف تنظر إليه:
- أعوذ بالله من شياطين الإنس والجن. سبحان من أنطق الجماد ورحم العباد. هل تحدثت البغلة؟ أستغفر الله العظيم. قبّحك الله يا مشمش أنت وشراب الشعير.
في نفس اللحظة التي كان يلعن فيها الشيخ زغاوة فضالي،كانت هي كالبدر ليلة التمام. فائرة كبركان جزيرة لا يتوقف عن الفيضان. كحّلت عيونها الواسعة بكحل أسود رخيص بعد أن تحممت ومشطت شعرها الأسود السائح الطويل. كانت هيفاء ولكنها ممتلئه ذلك الامتلاء الساحر، لا نقص شئ من نهودها ولا زاد شيء في فخذيها. لم ترتدي حمّالة للصدر وتركت نهديها يمرحان، فقط جلباب من قماش أزرق انتشرت عليه ورود كثيرة حمراء. كانت الغرفة تفيض لهيبا من حرارة الجو والجسد رغم انتعاشة الجو خارج الغرفة. فتحت شباب الغرفة الذي يطل على حقول البرسيم ونامت على ظهرها تنظر إلى بُقع الرطوبة التى انتشرت فى سقف الغرفة ومصباح الكهرباء الرخيص. تقلبت المرأة عدة مرات وتنهدت ثم حدثت نفسها:
- ما أضيعها من ليالي! آه يا فضالي الكلب. كيف يهون عليك كل هذا
وإذا بسيل أفكارها يرتطم فجأة ببغلة فضالي وهى تطل برأسها من شباك الغرفة. فُزعت شواهي وقامت من مرقدها تضرب صدرها المرمري كأنها تنظف من على جسدها تراب الأفكار التي لم تتركها لحالها منذ رحيل فضالي:
- بسم الله الرحمن الرحيم...
----- ----- ------ ------- ------ ----- ----
الجمعة القادمة الجزء 3
(3)- شمس فضالي وشمس إبراهيم
No comments:
Post a Comment