حكايات صاحب البلغة - 3


(3)-شمس فضالي وشمس إبراهيم




عاد الصعيدي أبو سِنّة من ليبيا حاملًا أحلامًا كبيرة تحميها القليل من الدنانير. اشتري قيراط من الأرض بنا على نصفه دار صغيرة وزرع النصف الآخر. قامت الحكومة بإزالة أساس الدار التي بُنيت على أرض زراعية مُجرّفة. يوم الإزالة فقد الصعيدي ولده الأكبر مُعمِر الذي سمًاه حُبًا في مُعمِر القذافي. عندما أتت قوة الإزالة وبدأ الجراف فى خبط الأساسات، رمى مُعمِر نفسه أمر الجرّافة فى سينمائية ندم عليها. ظن الولد أن سائق الجرّافه سوف يقف بالطبع، ولكنه لم يراه وفرمه حتى أصبح جزء من الأسمنت والطوب الأحمر وسط ذهول أهل القرية جميًعا الذين شهدوا هذا اليوم! انقلبت البلد رأسًا على عقب وكادت تفتك بالضابط والعساكر وسائق الجرّافة. حمل كل فلاح من الشهود ما ملكت يده من فأس ومنجل وبدأو فى مهاجمة حملة الإزالة. بدأ الضابط فى الهروب جريًا وخلفه باقي القوة والأهالي خلفهم فى مطاردة لن تتكرر كثيرًا. منذ هذا اليوم المشهود وحضور الشرطة فى قرية الخّواف حضور خفيف متمثل فى ضابط نقطة الشرطة وبعض الخفراء الذين لا يغادرون النقطة إلا فى الضرورات.
دار أبو سنة من البيوت القليلة فى البلد التي لمستها العصرّية والحداثة متجسدة فى ألواح الرخام التى انتشرت فى عشوائية قبيحة على كل جدار. فى الجانب الأيمن من باب الدار الحديدي، بنا أبو سِنّة مصطبة عريضة كي يتفاخر بها كما يتفاخر بركات أبو محيسن بمنظرته الكبيرة. فرش أبو سِنّة المصطبة بالحصير البلاستيك الأخضر وبعض المساند التي اتكأ أبو سنة على أحدهم وهو يدخن النارجيلة وعارض الشيخ زغاوة الجالس أمامه مع جمع من الفلاحين:                                                                         
- لم لا يا شيخ زغاوة. سيدنا إبراهيم نفسه قد عبد الشمس قبل أن يرى نور الهداية
- أنتم مجانين وتأتون ببدع هى أقرب إلى الكفر من الإيمان
ضحك أبو سِنّة وفتح فاه خال تمام من الأسنان:
- وما الضير فيما...
قاطعه الشيخ زغاوة غاضبًا:
- يا بهيم إن الشمس والقمر والكواكب كلها لله. لا توجد شمس فلان وقمر علّان
- ولكن..
ثم قام الشيخ زغاوة مستندًا على عصاة متجاهلًا أبو سِنة وعصابته وهو يلعن الجميع. شعر بالبغلة تقترب من جموع الناس، قام أبو سِنّة من مقعده مُرحبًا بالبغلة:
- أهلًا أهلًا برائحة الحبيب الغائب. وسّع يا ولد أنت وهو
ثم قام بعض الفلاحون من مجلسهم كي يفسحوا مكانًا للبغلة!
لم يصدق الشيخ زغاوة ترحيب الفلاحون بالبغلة:
- الآن تعبدون الشمس والبهائم يا بقر! لعنكم الله جميعًا قرية ظالمة راحت بركتها
ضحك أبو سِنّة:
- أنت معترف إذن أن البركة ضاعت مع فضالي

منذ أن راح فضالي وبات غيابة يقينًا محسوسًا ، بدأ أهل القرية يخشون الشمس! انتشر الحذر فى الأجواء مثل رائحة غريبة. كيف للفلاح أن يخاف الشمس؟  يسأل الشيخ زغاوة ولا مجيب. عندما تستدير الشمس وتتلون بالحُمرة، يلزم الفلاحون ديارهم حتى لا يحدث لهم مثلما حدث لفضالي. أصبحت الشمس الكاملة المستديرة اسمها "شمس فضالي" والشموس الأخرى مجرد شمس عادية. سُحب  سوداء تُمطر يأس على القرية..هل تتابع الخيبات كما عهدتها القرية قبل ظهور فضالي؟ وجد الجميع اجابة لحاجته عند فضالي حتى بدون دعاء، دون طلب أو استجداء. علم فضالي ما في قلوبهم فاستجاب.

عندما ترك الشيخ زغاوة مصطبة أبو سِنّة قصد الحقول الخضراء. فى الأفق، كانت السماء حبلى بشمس فضالي. على السكة الترابية ترى الفلاحون يسرعون الخطى عائدون من الحقول تفاديًا شمس فضالي والشيخ زغاوة يمشي عكسهم قاصدًا الشمس والحقول. تناديه أصوات خائفة:
- ارجع يا شيخ زغاوة
- فليذهب أحد يأخذ بيده ربما لا يرى الطريق الصحيح
- لا حول ولا قوة إلا بالله. الشيخ زغاوة سوف يضيع

فى مؤخرة طابور الفلاحين، كان بركات أبو محيسن-الرأسمالي الوحيد في القرية-  راكبًا حصانه الأبيض عائدًا هو الآخر. عندما رأي الشيخ زغاوة نزل من على الحصان وقال له فى غضب:
-  الفّلاحون لا يعملون يوم كامل يا شيخ زغاوة بسبب شمس فضالي
- لايوجد شيء اسمه شمس فضالي يا حاج بركات. الشمس شمس الله
- ملعون فضالي فى حضوره وغيابه. سوف يصيبنى الخراب والمحصول هيضيع. لا حكم لي الآن على الفلاحين.
ظهرت البغلة البيضاء فجأة واقتربت من الرجلين تأكل ما تحت أقدامهما من بقايا عشب ميت!
ضربها الحاج بركات بعصا يمسكها فى يد وصرخ فى البغلة:
- غوري قبر يلمك أنت وصاحبك. متى أتيتِ إلى هنا. كيف هبطتِ علينا هكذا
أصاب الشيخ زغاوة قليل من التوتر عندما رأي البغلة هكذا لا يعلم من أين أتت:
- لا تغادر الحقل يا حاج بركات. فعندما يراك الفلاحين أنت الآخر تترك الغيط سوف يصدقوا هذه الأسطورة
- ولكن كيف لي أن أتأكد أن هذه الشمس ليست مسحورة يا شيخ زغاوة. ماذا لو كان خوفهم صحيح
- سلام عليكم يا حاج بركات. أنت الآخر لا تقل بصيرة عن ابنك محيسن
ثم تركه هو والبغلة وواصل مسيرته.

عبر الشيخ زغاوة السكة الترابية ومقهى الخولعي. وقد أصابه شئ من الشك. أخذت الأفكار والأسئلة تعبث برأسه. ماذا لوكانت هذه الشمس مسحورة حقًا؟ ماذا لو بلعت فضالي بحق. استغفر الله العظيم. الأنجاس ولاد الكلب سوف يجعلوني أكفر بالواحد الأحد. عن أي شمس تتحدث يا زغاوة. أنت تعرف فضالي وأصله وفصله وتعرف لماذا يؤمنون به وفضائله.
بعد أن عبر زغاوة القرافه اتجه شمالا ناحية الفاخورة و الساقية المهجورة. على بعد خطوات كان هناك بيت متواضع بُني من جذوع النخيل والبوص والخيزران. تحرك الشيخ زغاوة قاصدًا المنزل وقبل أن يصل إلى الباب اعترضته بغلة فضالي! رجع الرجل يتحدث لنفسه مرة أخري لقد ترك البغلة مع الحاج بركات والآن هي أمامه!  
فتح الشيخ زغاوة الباب ودخل المنزل كمن يعرف تفاصيله جيدًا. المنزل جميل من الداخل. نظيف وبه قطع أثاث راقية رغم بساطتها. ثمة مكتب خشبي قديم ومقعد، سرير متواضع ودولاب والعديد من الكتب. جلس زغاوة على السرير ينظر إلى المنزل(الكوخ) وضع عصاه جانبًا وركع على ركبتيه وبحث تحت السرير حتى وجد صندوق نحاسي متوسط الحجم. وضعه على السرير وفتحه وهو ناظر إلي محتوياته. خرجت من الصندوق روائح الماضي المعبقة بالنعيم. صور قديمة ومفاتيح أوراق أصابها الزمن بالاصفرار. رسمت الأشياء على وجه زغاوة ابتسامة نادرًا ما تراها. راحت الابتسامة عندما سمع زغاوة صوت الباب وهو يفتح فنظر ليجد شواهي تدخل عليه. قبل أن يلقي عليها أي تحية قالت له:
- البلغة تحدثني يا عاطف
لم يسمع اسم عاطف منذ زمن مضى، فأضاف الإسم إلى محتويات الصندوق النحاسي حنينًا فوق الحنين:
- سلامة عقلك يا سيدة النساء
- أنت تعرف أنها تحدثني وتنكر
- كيف للبهائم أن تتحدث يا زينة النساء
- قُل لي أنت كيف
- ربما خُيّل عليكِ
- كلما تذكرت فضالي فى أي مكان تظهر لي البغلة دون استئذان كأنها هبطت من السماء
- البلغة مثلنا تشعر بفقدان صاحبها ليس إلا.
سألها مغيرًا مجرى الحديث:
- ماذا جاء بكِ هنا 
- أبحث عن أي شيء يُفسر هذه الغيبة. وأنت جئت تبحث عن الماضي الذي لن يعود
- كنا فى نعيم
- وأنا الذي ضيعته أليس كذلك؟
- لم أقل ذلك يوم
- لا يهم أن تقوله بالحروف
- ليس لكِ ذنب فى أي شيء ويجب أن تكُفي عن هذا
- أين ذهب؟
- أنتِ تعرفينه مثلي تمامًا

- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -- - - - - - - - - - -
الجزء القادم - 4
(4) - رجل غريب فى مقهى الخولعي