في نيويورك عملتُ في شركة تنظيم وتحضير المؤتمرات الصحفية التي تسبق طرح الأفلام في دور العرض. في بداية عملي، كدت ألا أنام عندما عرفت أني سوف أعمل في الفيلم الفلاني الذي قام ببطولته أحد نجومي المفضلين. في الصباح نزلت لاستقباله على الباب، وأثناء نزوله من السيارة، مر أحد المعجبين به وحاول أن يسلم عليه، لكن النجم رمقه بنظرة احتقار ولم يمد له يده وواصل طريقه كأن هذا المعجب لا شيء.
في التسعينات، قلمّا ظهر نجوما مثل محمد منير أو عمرو دياب في الجرائد أو التلفزيون. لم نكن نعلم عنهم شيئًا سوى أغانيهم. نادرًا ما سمعنا تصريحا بعيدًا عن الغناء. هذا الاختفاء جعلنا نتخيل ونبني أساطير حولهما وحول غيرهم من الأمثلة الكثيرة - في الرياضة والأدب والسينما -التي نجهل شخصها وحياتها الخاصة لكن نعرف ما تقدم من فنون. كان لنا أصدقاء يقومون بنط أسوار نادي سبورتنج لحضور حفلة لمنير أو عمرو دياب. وفي اليوم التالي نجلس نستمع إلى هذا (الناطط) ليحكي لنا كل صغيرة وكبيرة في الحفل.
نظرًا لنقص المعلومات، نقوم نحن ببناء (مُتخيل) من هالات وشخصيات متعددة لكل أبطالنا. وكذلك كان الحال لنجوم نحبهم ولكن لم نعاصرهم مثل محمد فوزي وعبد الحليم وغيرهم. نحن نعرف مجرد قشرة عن شخصياتهم أو بالأصح لم نسمع منهم في فيديو أو تويت أو بوست على الفيس بوك حتى نحكم على مدى غباء أو ذكاء آرائهم. تُرى لو عاش عبد الحليم وفوزي حتى بلغا من العمر أرذله، هل كانا سيحظيان بنفس المكانة؟ نحن نكمل الناقص ونزيد من الحكايات التي تجعلهم أنبياء لا غبار عليهم. وعندما تخرج اشاعة أن الممثل الفلاني أو اللاعب الفلاني يعمل الخير أو يساعد الناس، تكبر الإشاعة حتى تصبح نبوءة جاء بها جبريل وأن هذا اللاعب أو الممثل ما هو إلا ملاك.
وفي الحب، نأكل لأحبابنا الزلط كما يقولون. في البدايات ندعي الكمال.. كان لي صديق واقعي أزيد من اللازم. عندما يصيبنا (كراش) على أحد الفتيات، كان يقول تخيلها وهي في الحمام تعمل رقم ٢ وسوف تنفر منها في الحال. ولي أصدقاء متزوجون صمموا أن يكون المنزل أو شقة الزوجية بحمامين حتى لا يشارك الحمام مع حبيبته ويكتشف أنها إنسان من لحم ودم لها متطلبات بيولوجية مثلنا نجن الرجال. أعرف شاعر كبير وشهير، كنا نجلس على أحد مقاهي القاهرة، وجاء شاب معجب يتصور مع الشاعر. قام الشاعر بإزاحة كل زجاجات البيرة من على الطاولة حتى لا تظهر في الصورة. يجب أن يبقى الشاعر في (المتخيل) لا يشرب البيرة.
حتى في الفراق، الفراق "الراقي".. أي فراق من نحب فقط. نعم.. أحيانًا كثيرة نفارق من نحب لأسباب متنوعة. في هذا الفراق، نأخذ معنا ذكريات بعضها حقيقي وبعضها من (المتخيل). نضع هذه المشاهد والمتخيلات في أرقى وأقرب مقاعد الذاكرة حتى نلجأ إليها عند اللزوم لإنقاذ حياتنا.
يعيش (المتخيل) إلى الأبد طالما حافظنا عليه وحميناه من كل ما هو حقيقي. وينهدم تماما عندما تبدأ حفلات تركي آل الشيخ ويظهر عمرو دياب ومنير على خشبة مسرح واحدة. ينهدم (المتخيل) على قنوات السوشيال ميديا عندما يفتح أبطالنا أفواههم برأي مختلف لا يروقنا. ينهدم المتخيل عندما نستخدم نفس الحمام الذي يستخدمه أحبائنا. تبعد مقاعد الذكريات تلك عندما نشاهد ما حدث للأحباب وكيف غيرّوا أو غيرّهم الزمن!
نصنع بقلوبنا خريطة عقلية مثالية لأبطالنا وأحبابنا، خريطة رسمتها قلوب لا منطقية لأننا نعلم جيدًا أنه لا علاقة للقلوب بالمنطق. وهكذا يكمن جمال القلوب في جنونها. في هذه الخرائط نمحو كل ما يؤذينا ويغير نظرتنا لأبطالنا. لأننا في الواقع نكره لقاء أبطالنا.
No comments:
Post a Comment