(1)
أسلك نفس الطريق الذى حفظ خطواتى لسنوات مضت. نفس الحُفر والمطبات. نفس الاشجار القديمه التى مات معظمها و سقطت اوراقها إعتراضاً على الإهمال والنسيان. نفس الهواء الذى اشك فى تجدد ما يحتويه من أكسجين واسباب أخرى للحياه. أقصد ذلك المحل الصغير – الذى يملكه عجوز ايطالى غاضب – لشراء القهوه قبل ذهابى إلى العمل. نفس عدد الخطوات، ٨٦ خطوه بالتمام والكمال بداية من عتبه منزلى حتى أن أصل إلى المحل. نفس الطقوس والروتين، ثمة قطار أبى أن يحيد عن قضبانه ومجراه الحديدى.
(2)
أفتح باب المحل فى هدوء مُصطنع بيد مرتعشه وكأنى أخشى أن أُدْنس قدسية مسجداً او كنيسة وقت الصلاه والترانيم. فالمحل قديم كقدم صاحبه والباب لم يبق منه سوى مقبض نحاسى هالك وآيل للسقوط فى أى لحظه، وأنا لا أرغب أن أكون ذلك الشخص الذى يسقطه وأصبح أسطورة المحل بعد أن يعنفنى العجوز ويمنعنى من دخول المحل مرة أخرى
(3)
لا يملك احد من روّاد المحل الشجاعه الكافيه لمناقشة صاحب المحل فى موضوع إصلاح المقبض أو تغير الباب كله. فالجميع يعرف ردة وإجابته مُسبقاً، بأن هذا الباب هو باب الخُلد الذى صنعه جده الأعظم هو والمقبض النحاسى فى ورشة النجارة التى كانت تملكها العائله فى ايطاليا خلال الحرب العالميه. وبناء عليه لن يتم تغير أى شئ وسيبقى الوضع على ماهو عليه. لم يعترض أحد على القوانين التى وضعها العجوز لروّاد محله الصغير الذى لا يبيع أى شئ سوى القهوه. فالإعتراض معناه العقاب والحرمان من دخول المحل مدى الحياة.وهنا أتذكر ذلك الشاب الذى طلب يوماً مزيداً من اللبن لقهوته التى نعتها بأنها قويه جداً، فأخذ العجوز الفنجان من يده وطرده خارج المحل شر طرده وهو يصرخ : كيف لك أن تضيف أى شئ على ما صنعت لك من قهوه وهى رمز الكمال؟ إذهب إلى ستاربوكس فهم يملكون الكثير من اللبن للبقر أمثالك !
(4)
فتحت الباب ودخلت، وعندها رمقنى العجوز بنفس النظره التى يأست من تفسير مغزاها ومضمونها. ولكنها بالنسبة لى نظره مُريحه فيها ألفة المعرفه والحنين الى الماضى الذى لا يتم صُنعه وكتابته إلا فى جو عائلى بديع. لم أتحدث اليه كما هو مُتبع ولكنى وقفت أمام المنصه فى أدب وخشوع كعبد من الرعايا فى حضرة ملك الملوك. ناولنى فنجان القهوه وقبل أن أغادر سألنى بدون أن ينظر إلى : لماذا لم تحضر الثلاث أيام الماضيه؟ وقبل أن انطق بحرف، واصل كلامة قائلا: أكنت مريض؟
قلت : لا ولكنى ...
فقاطعنى سائلاً مره أخرى: أكنت مريض؟
فأجبت على عجل قبل أن يقاطعنى : بلا لقد كنت مسافراً
فقال العجوز: حسناً إذن ..يوم سعيد!
وجدت فى سؤال العجوز نبرة قلق وعطف لم أتعودها من شخصيته الغامضه ولكنى سعدت بسؤاله وعلامات القلق التى طلت كلماته. فقلد قصرت المسافه بينى وبينه بضعة خطوات بسؤاله هذا. اخذت القهوه وإنصرفت سعيداً بما إكتشفت من جوانب أخرى لشخصية العجوز. فبرغم غضبه الدائم وعلامات التهجم التى تحتل قسمات وجهه، إلا أن هناك خط إنسانى رفيع يفصل بين غضبه وبين تلك النقطه البيضاء التى يملأ ضوئها قلبه الذى ظن البعض أنه أسود كاحل
(5)
أعود اليوم التالى سالكاً نفس الطريق، قاطعاً نفس الخطوات لأجد المحل مغلق ومُظلم من الداخل. كانت هى المره الاولى التى أرى المحل مقفول. لم أجد أى شخص لأسأله عن السبب. ثلاثة أيام متتاليه والمحل مُغلق. وفى اليوم الرابع وجدت بابا جديداً تُزينه قبضة نحاسيه لامعه. أفتح الباب بلهفة العطشان التائه فى الصحراء عندما يرى نهر عذب فرات بعد مُرّ الشقاء. ولكنى لم أجد العجوز فى مكانه المعتاد خلف المنصه مرتدياً المريلة البيضاء المُتسخه. ولكنى وجدت مجموعه أشخاص يبدو من هيئتهم أنهم عمال يقومون بهدم المحل من الداخل. سألتهم عن ما يصنعون؟ وأين العجوز الإيطالى؟ لم يهتم أحد بوجودى أو سؤالى سوى شاب صغير السن عندما اجابنى : لقد مات !! لم أسمع شئ آخر بعد كلمة مات
خرجت من المحل ووقفت أمام بابه الجديد. أنظر اليه وأتأمله وعندها تأكدت بأن العجوز فعلاً قد مات ورحل عن عالمنا. فلو كان فيه بصيص حياه ما سمح لهذا الباب بالوجود. الآن أنظر الى تلك الأرض الثابته تحت أقدامى وإلى خطواتى الستة وثمانين. ربما زادت هذه الخطوات أو نقصت. ربما أصبحت المسافات شاسعه، أو قصرت وضاقت. ولكن من اليوم سأبدأ حتماً فى تعداد خطوات جديده لعتبة جديده.. اليوم سيحيد القطار عن موضعه.
No comments:
Post a Comment