(1)
صراخ أنثى ذات صوت مبحوح يعانق صياح الديكه ونباح الكلاب الجائعه. فى هذا الفجر،مزقت الأصوات سكينة القرية التى لا تزيد تضاريسها عن فسحاية كبرى يتفرع منها عدة شوارع من أزقة وبيوت طينيه. لا يسكنها روح رغم كثرة الناس وروائح العرق ، مُستقره رغم حركات الأطفال ونعيق البهائم والحيوانات، ميته رغم مظاهر الحياه المتشبثه فى جدرانها . تفاصيل مبعثره لا تدل على أي شئ.لا يوجد خصوصيه فى تلك القريه، يسمع الجار جاره عندما يضاجع إمرأته فى شبق حيوانى يتفاخر به فى الصباح بين أقرانه، أو يتوارى منه عندما يكون مجرد تأدية واجب كُتب عليه بأمر المأذون. تعرف المرأه ما تطبخ جارتها وتعايرها به وتنعتها بالكاذبه إذا إدعت الظفر والمحمر والمشمر
(2)
عويل المرأه كان سبباً فى تجمع الصغير قبل الكبير، النساء والرجال، الشباب والشيوخ , البط والأوز ترك مياه الترعه القذره ملبياً نداء الإستغاثه.حتى البهائم التى كانت فى طريقيها إلى الغيط تجمعت حول منزل مُنذر أفندى المندري وكأن سفينة نوح قد تجسدت فى فناء المنزل القديم. إمرأه ثلاثينيه تقبع على جثة رجل عجوز. تبكى على الفراق المصطنع والوحدة التى طالما تعبدْت من أجلها ونظرات الطامعين التى كانت تعشقها وتثيرها.حولّنة الحضور حول فجيعة الموت تبدو بلا خشوع، دموع من لا يتذكر ملك الموت إلا عندما يقترب من عتبات بابه ويلمس عزيز لديه هى مجرد دموع مؤقته ووجب نزولها
(3)
لا أحد يعرف المندرى أفندى جيداً بل لم يهتم أحد بمعرفة الرجل. عجوز قدم إلى القرية فى هرمة. لا أهل، لا قريب لا ولد. لا طين لازرع لا حسب لا نسب. لكن الجميع يعرف إمرأته التى تتحدث بلغة البندر، يخرج من فمها فحيح تنحني له القلوب والجباة .من خلال ذلك الجلباب الملّون ينفر ثدياها متباعدين كثدي بكر. إستدارا فخذيها فى تمام القمر ليلة منتصف الشهر. لم يرى أهل القرية لوحة فنيه بديعه كتلك من قبل. كانت خضره بالنسبة لهم نوع آخر من النساء، صورة ملونه على صفحات مجلة سوداء. ينتظر رجال القريه ميعاد طحين الغله عندما تحمل خضره الغلق فوق رأسها وتمشي على الأرض تدكها دكاً فى إختيال وفخر يحفها قليل من المرح وكثير من الثقه. كانت ماكينة الطحين بجوار المقهى الوحيد بالقريه. وكان ذلك اليوم بالنسبة لرجال القريه مثل يوم الزينه عند فرعون وموسى. يترك الرجل حرثه وأهله وذريته، ويحجز مكان فى المقدمه، حتى يرى ويشهد تلك الثوانى التى تمر فيها خضرة من أمام المقهى. عندها تصمت القريه جمعاء إجلالاً لذلك الجمال الأنثوى الملتهب الذى يفقد الرجل عنده صوابه وفضيلته
(4)
مات المندرى تاركاً ميراث ستقوم من أجله معارك . دقات طبول الحرب الصامته لها صدى مسموع فى أرجاء القريه الهادئه. زئير الشهوة يظلل بغيوم رمادية سميكه على عقول الرجال قبل قلوبهم. أهمل الرجال قنوات الدش الأوروبية التي كان فيها خلاصهم لسنوات.شهامة الجبناء لاحت في الأفق فجأة لحماية خضره، المرأه الوحدانية التى تعيش الأن بمفردها بدون ظهر رجل تتسند عليه وتتونس به. كرم البخلاء رفرفت آلاءه حول منزلها لتحفها ببعض مظاهر البزخ الغريب عن القريه. تحول الفاجر إلى تقىّ مُصلى يخشى الله فى الأرامل طالبات الستر أمثال خضره
(5)
أصبحت خضره شيخه ولها مريدين من الرجال فقط. أصبحت هي القبلة التي يصلي إليها الجميع . لم يستطع رجال القريه إنتظار يوم الطحين لرؤية خضره. فغيروا طرقاتهم التي تعودوا عليها وألفوها لسنوات. أصبح طريق الغيط لابد أن يمر أمام منزل خضره. حتي المصلين قصدوا المسجد الصغير عن طريق منزل خضره. تغيرت الملامح الجغرافيه للقرية فاصبح الشرق غرباً والشمالا جنوباً. المهم أن يكون منزل خضره هو تلك النقطه التي تُقرّب المسافات وتصلها ببعض
(6)
بغروب شمس اليوم العاشر بعد الشهر الرابع منذ وفاة المندري أفندي، بدأ الخُطّاب والعرسان يطرقون باب الأرملة الجميله بعنفوان. الكل يرغب في ستر المرأه مكسورة الجناح. الأصول وسِلو البلد يحتم علي الجميع أن يتقدموا لطلب يدها، ليس طبعاً طمعاً في الجمال ونشوة الجسد المرمري لا سمح الله، ولكن ستر الوالايه من شيّم الرجال .رفضت خضره الجميع رفضاً خاصاً، رفض الواثق الذي لا يخشي الطالع. كان رفض المخطِط الخبير الذي يعرف المستقبل ولا يهاب الرياح ولا السفن. تعرف خضره أنها تملك من الأسلحة ما يضمن الفوز والانتصار علي رجال القرية الضعفاء.أصبح المقهي نادي للمرفوضين بعد أن كان يوماً رمز البهجة في القريه.يجلس الرجال وعلي وجوههم نظرات الخاسر الطريد. الغضب يملأ الصدور الهائجة .لا أحد يعرف أن من يجلس جواره هو الآخر خاسر مرفوض كل رجل هائم علي وجهه ينكر في عالمه الخاص أن خضره قد رفضته وقالت له لا
(7)
يوم الطحين أتى قبل موعده. شمس الظهيره أضافت إلى صدور الرجال حمقاً وغضباً وحراره. الجلوس على المقهى صامتون. لا يعلم الرجل ما يدور بدماغ جليسه. الكل فى إنتظار خضره وخطواتها القاتله التى قلبت القريه رأس على عقب. تحفُز الوجوه مختلف عن ذى قبل. النظرات الشهوائيه فقدت لهيبها. بكل رأس خطه محدده باتت وتخمرت ولايبقى سوي التنفيذ
(8)
لاحت خطوات خضره في الأفق. تبدو أكثر جمالاً، أكثر نصره، أكثر طلباً لنظرات الحسرة من العيون الملهوفه. الثواني التي كانت تأخذها لتمُر من أمام المقهي أصبحت دقائق عن عمد حتي يري كل رجل الجمال الذي يشتهيه ولن يناله. هبّ رجل من مقعده مسرعاً في إتجاه خضره. تحدث إليها لدقائق ثم أخرج مسدسه وأطلق رصاصه في صدرها. ظن رجل من الجلوس أن الذي يتحدث إليها هو سعيد الحظ الذي إختارته. ففزع من مقعده وأخرج مسدسه وأطلق بضعة رصاصات في إتجاه خضره والرجل الأول. قام ثالث بأخراج مسدسه ولحقه رابع وخامس وسادس. أصبح المقهي ومحيطه ساحة حرب. رصاصات طائرة بعشوائية دقات القلوب المضطربه. أصوات الرصاص كسرت الصمت الأول وخلقت صمت الموت والدماء. جثة خضره تتوسط العديد من جثث العاشقين في بركة من الدماء التي شربها تراب الأرض
(9)
إستدار القمر مرّات. نامت الأيام وأستيقظت على كوابيس الواقع. الفجر لاح في الآفاق البعيده وإنتشرت أنواره المكسورة في كل صوب. كل شئ في البلد يحاول العودة الي ما قبل هذا اليوم ولكن مظاهر البلد ترفض. سادت الغربه في أرجاء القريه. مرت اللحظات بالتفاصيل المبعثرة ذات اللا قيمه. تغيرت حركات الناس. وأصبحت كل حركه حياه ثقيلة مستقله بذاتها. الشمس في غروب دائم. الشوارع الطينية ملأتها وحشه وصمت جديد. الناس تنطق بحروف لا تصنع كلمات. الوسعايه أصبحت مهجورة إلا من ورقة شجر جافه تتلاقفها الرياح وترفض أن تموت
No comments:
Post a Comment