الحَبّة الّبَيَضاءْ

لابد أن أقول له ما قصدته بالتحديد. كيف لى ان أكون بهذه القسوه. كل ما طلبه الرجل هو نقل ملكية التليفون من والده الذى مات منذ بضعة أيام .حتى السنترال اليوم لم يكن زحمه. كان هو الوحيد الواقف بالصف وعلى وجهه إبتسامة ترجى وفى يده ورقه بيضاء.  اللعنه على الحبوب المهدأه. قال لها الطبيب بأن الوخزة التى تعاني منها فى صدرها سببها القلق الزائد . لم يقل لها الطبيب ان هذه الحبوب البيضاء ستجعل بينها وبين الناس حجاب وعازل سميك. كيف لهذا الطبيب  ان لا ينصحها بالاعراض الجانبيه لتلك الحبة البيضاء. اللعنه على جميع الأدويه. واللعنه على مدام احلام زميتلها فى السنترال. هى من نصحتها بزيارة هذا الطبيب الفاشل. سوف اشتيكه فى نقابة الاطباء وارفع عليه دعوه قضائيه. ماذنب هذا الرجل المسكين الذى عاملته بجفاء ولا شعور. ماذا كان لو قلت له بأن قسم  الخطوط الأرضيه فى الدور الثانى من المبنى. لماذا اتهجم عليه واسخر من عدم قرائته للافته النحاسيه الموضوعه امامى تشرح ما أقوم به من لا شيئ. البرقيات ! لا أتذكر آخر مره قمت بها بتلقى برقيه أو إرسال برقيه. ولكنى عنّفت الرجل الذى جاء طالباً شيئ بسيط. كل ما وجب قوله هو : إذهب لمدام أحلام فى الدور الثانى. قطيعه تقطع مدام أحلام وطبيبها والحبة البيضاء. لابد أن أبحث عن هذا الرجل كى أعتذر له. لابد أن اشرح له ان الجفاء كان من أعراض الحبة البيضاء. ولكنى كيف أصل إليه؟ ذهبت إلى صندوق القمامه وبحثت فيه عن الورقة البيضاء التى كانت فى يده ورماها بغضب عندما سخرت منه وإتهمته بالجهل والغباء والأُميّه. وجدت الورقه وبها رقم التليفون.
فكرّت ملياً ماذا تفعل برقم التليفون الآن. الأسهل أن تتصل بالرقم وتعتذر للرجل عن ما بدر منها. وتشرح له بأن الأعراض الجانبيه للحبة البيضاء هى السبب فى جمود المشاعر . هى فى الواقع سيدة طيبه تحب خدمة الناس جميعاً لا تُفرّق بين عربى ولا أعجمى غير أن وخزة صدرها كانت سبباً فى الذهاب الى ذلك الطبيب الفاشل الذى كتب لها الحبة البيضاء. وعندما بدأت تأخذ هذه الحبه، بدأت عليها أعراض الغلظه واللاإنسانيه . لكن الرجل لا يهتم بكل هذه التفاصيل. كل ما يهتم به هو نقل ملكيّة التليفون. إذن سوف أعتذر له وأطلب منه العوده وسوف أقوم أنا شخصياً بمساعدته فى تخليص الإجراءات فى الدور الثانى. كل شيئ سيعود إلى سيرته الأولى. مجرد مكالمة تليفون هى ما يفصل بينى وبين الإنسانيه والتحضُر. وضعت يدها على قرص التليفون وتنحنحت كقارئ فى الإذاعه أو مطرب فى بداية وصلة غنائيه. بدأت فى ضرب ارقام التليفون وهى تنظر الى علبة الحبوب البيضاء الكائنة علي مكتبها و تعلنها فى سرها. إنتهت من ضرب آخر الأرقام عندما سمعت رساله صوتيه : الرقم المطلوب مرفوع مؤقتاً من الخدمه! عاودت الإتصال مرّات ولكن النتيجه هى النتيجه الرقم مرفوع مؤقتاً. لم تجد بُد غير الذهاب إلى الدور الثانى وتطلب مساعدة مدام أحلام التى قاطعتها بعد حادثة الحبة البيضاء والطبيب الفاشل. نعم سوف ارفع عليه قضية تعويض بتهمة الإهمال الجسيم. قابلتها أحلام بفتور، فبينهن قطيعة وإختلاف فى الرأى. ولكن العشرة القديمة جعلت أحلام تقوم بمساعدتها بعد أن وضعت أمامها الرقم. بعد محاولات قليله فى جهاز الكمبيوتر: قالت لها أحلام نعم لقد قطعنا الخدمه عن هذا الخط لانهم لم يدفعو الفاتوره. ودت أن تشرح لأحلام تفاصيل موت الرجل وربما كان هذا هو السبب فى عدم الدفع فى الميعاد، ولكنها أبت أن تشرح لمدام أحلام أى من هذا. كيف لسيدة تتعامل مع هذا الطبيب الفاشل ان تفهم معنى الإنسانيه؟ سألتها عن قيمة الفاتوره فردت أحلام: 146 جنيه. فقامت بدفعها لأحلام وطلبت منها إرجاع الخط.
إتصلت بالرقم أكثر من مرة بعد أن دفعت الفاتوره وعادت الحراره للخط مره أخرى ومع عودة حرارة الخط عاد الأمل من جديد بأن تستعيد إنسانيتها الضائعه.ولكن لم يجيب أحد على هذا الأمل المحشور فى الأسلاك. إزادد قلقها درجات  وتكومت الهموم جبالاً على صدرها وصارت الوخزة وخزات متتاليه كإبرة ماكينة الخياطه عندما تنخر بلا رحمة قطعة من القماش. صعدت للدور الثانى مره أخرى تطلب من مدام أحلام العنوان الذى يوجد به هذا الرقم. لم تتعجب أحلام من طلبها، كتبت لها العنوان على ورقه دون أن تنظر إليها فرآية القطيعه لازلت ترفرف بين السيدتين . ركبت تاكسى قاصدة العنوان التى أخذته من مدام أحلام. وصلت إلى المبنى فى حيّ راق هادئ. صعدت إلى الدور الثالث وهى تنظر الى الورقة فى يديها،حتى رأت الشقه وبابها مفتوح وجدت جمع غفير من الناس التى يبدوا على وجهوهم الحزن. أحاديث جانبيه بين نساء يقطع حديثهن بين الحين والآخر مصمصمة للشفاة ، وحولنه من الرجال ودموع لا تعرف مصدرها. إشتقت طريقها بين الزحام بصعوبه لترى الرجل التى جائت تعتذر له معلق من رقبته فى حبل مدلى من مروحة السقف! بحثت على كرسى قريب وسط الجمع الذى يبدوا عليهم الغربه وعدم الأُلفه، وجلست تفتح حقيبتها - وتلعن الطبيب ومدام أحلام وخط التليفون و ديمقراطية الموت التي كانت سبباً فى أن يأتى هذا الرجل إلى السنترال من البداية -حتى وجدت الحبة البيضاء ، بلعتها وماتت.

No comments: