العذر بالماضي، كان الجهل بجرائم الحكومات




قال صديقى بصوت جهوري يرسم نبراته الغضب:
  • كل من ساند الانقلاب من الكتاب والممثلين والفنانين والمبدعين لابد عليه أن يخرج على الملأ ويعتذر حتى يُقبل اعتذاره!
قاطعته مازحًا:
  • ربما يجهلون أنه انقلاب!
لطالما تناقشنا فى هذه النقطة عن علاقة المثقف بالسلطة وتعريف الوطنية ومتى كانت المعارضة خيانة. صديقي يمثل قطاع عريض من الناس لن يغفر ويسامح العديد من المبدعين والفنانين. هل يجوز أن تحب فى فى هؤلاء فنونهم وترفض مواقفهم السياسية؟هل هناك فرق بين الفنان والإنسان؟ هل يحارب المثقف من أجل مساحته الشخصية فقط أم من أجل المجتمع الذي يحيا فيه؟ هذه نقاط مهمة ولها ثقلها فى هذه النقاشات التي لا نخرج منها عادة بنتيجة حاسمة ونهائية ترضى جميع الأطراف.
تذكرت مزحتي مع  صديقي باحتمالية جهل الفنانون بالانقلاب وأنا أشاهد فيلم (Judgment at Nuremberg) الذي يحكي عن محاكمة من المحاكمات العسكرية التى تبعت هزيمة النازي الألماني بعد الحرب العالمية الثانية. كانت هذه المحاكمة-قصة الفيلم-  بالتحديد لوزير العدل والمدعي العام وقاضيان. فى أحد المشاهد الجميلة، نشاهد المتهمين فى كافتيريا السجن يتحدثون فى ذهول بعد أحد الجلسات، ويسأل قاضي من المتهمين زميلًا له:
  • هل كنت تعلم أي شيء عن حرق اليهود؟ هل يعلم أي منكم عن معسكرات أفران الغاز الذي تحدث عنها المدعي العسكري فى جلسة اليوم؟ هل قرأ أحدًا منكم شيئًا عن هذا؟
فيرد جميعهم:
  • لا طبعًا!
إذا قرأت فى تاريخ النازي الألماني، ستجد أن هتلر وإعلامه بقيادة جوبلز قد جعلا ألمانيا فى عيون شعبهم مهددة بالخطر وأنها تحارب من أجل البقاء لا من أجل التوسع والجنون والنقاء العرقي. قدم الإعلام الهتلري مصطلحات مثل العدو الخارجي والمؤامرات الداخلية والتحديات وعقبات البناء وكلها مصطلحات يُعاد تدويرها فى بلادنا الآن. الفرق هو أن وسائل الإعلام حينها لم تكن كما هي فى عصرنا هذا. إذا حدثت جريمة فى أقاصي الشرق، شاهد أهل الغرب الفيديو بعد تنفيذها بدقائق. لقد شاهدنا حروب مثل حرب الخليج على الهواء مباشرة. كم من مرة استمعنا إلى مسؤول كاذب وبعد ثواني نقدم له دليل كذبه وإدانته؟

فى الفيلم دافع أحد القضاة المتهمين عن نفسه وقال أن كل الأحكام التي حكم بها ضد المواطنين كانت تُملى عليه وأنه كان يظن أن ما يفعله هي الوطنية الصائبة. وأن هؤلاء هم حقًا أعداء الوطن الذي يجب الخلاص منهم حتى تنعم البلاد بالرخاء والأمن والاستقرار.
كذلك دافع جميع المتهمين عن أنفسهم إلا وزير العدل هو الوحيد الذي لم يحاول الدفاع عن نفسه والهروب من المسؤولية. على النقيض قال أنه يجب معاقبته لأنه لم يسأل و يستقصي ويتحرى ويستخدم عقله ويعارض ويعرف الحقيقة بل يجب معاقبة العالم والدنيا كلها معه لأن هذا العالم وقف صامتًا عندما رأى طاغوت يكبر ويتوحش أمام أعينهم ولم يفعل أي شئ إلا بعد قتل ستة ملايين روح!
رسالة الفيلم وحبكته جاءت على لسان المحامي الشاب الذي كان يدافع عن هؤلاء. كان يطالب بأنه لا يجب محاكمة ألمانيا كلها على جرائم الحكومة لأن معظم الناس كانوا لا يدرون شيئًا عن هذه الجرائم. أي أن العُذر الوحيد هو الجهل بجرائم الحكومات. تُري الآن وكل شئ مسجل صوتًا وصورة ما هو عُذر الناس للحكومات المجرمة؟ بل السؤال الأصوب ما هو عذر الناس لأنفسهم؟ لماذا يشارك بعض الناس هذه الحكومات فى إجرامها يا أمًا صامتًا أو مدافعًا عنها. لماذا يساعد السجين سجّانه ويحارب المقتول بجوار قاتله؟

No comments: