لا يوجد يوم جيّد للفراق #قصة





كان هناك شوقا غير مفهوم عندما جلستْ على مقعدها أمامي. لكني توصلت في لحظة ما إلى أن الشوق ربما يأتي من معرفتنا بأنها المرة الأخيرة.
كانت الطاولة بجوار شباك زجاجي كبير. في الشارع، خلف الزجاج، كان هناك حياة وفي المطعم كان الموت يتسلل ببطئ مثل بخار الطعام القائم أمامنا. لم يتحدث أي منا، مجرد محاولات لمضغ الطعام واستهلاك دقائق من الزمن يتم وصفها فيما بعد بمحاولة لم يُكتب لها النجاح.

كلما أردت الانتصار على الصمت الذي يشاركنا الطعام، هربت بنظري إلى الشارع خلف الشباك الزجاجي. قطرات المطر تغسل المباني في همّة ثم تتساقط، بعد أن تفقد عنفوانها، في سكينة جسد يحتضر دون صخب. اشتدت الريح قليلا لتحمل المطر في الهواء قبل أن يصل إلى الأرض وتصنع منه موجات مستديرة. ربما كان الجو الجنائزي بالخارج هو امتداد للموت الذي نتنفسه داخل المطعم، ولكنني نفيت هذا الاستنتاج الساذج في الحال. السماء حيادية لا تشرق شمسها لأفراحنا ولا تُغيم سُحبها لأحزاننا. نحن الأغبياء، نفسر الطبيعة طبقا لأهواء قلوبنا.

قامت من مقعدها بعد أن شخبطت هذه الدقائق في دفاتر العشاق. بكل هدوء، بدأت في لمّ  شعرها للخلف، ومع خصلات شعرها الأسود الطويل، كانت  تُلملم بقايا الزمن وكل ما كان لها هنا، كانت مُصممة ألا تترك خلفها شيئًا لي أتذكرها به.

نظرت إليّ وهي واقفة وأنا جالس مكاني في مظهر المذنب. بدت عملاقة، رغم قِصر قامتها الذي أحبه فيها. أغلقت عيونها الواسعة لثواني لتحتفظ بصورتي وأنا جالس أمامها على مقعد البؤس في انهزام. بالتأكيد سوف تُلقي بصورتي هذه في منطقة غير مؤهلة بالحياة في ذاكرتها التي لا تعرف الصفح أو النسيان. لم أتحرك. اخذت حقيبتها ومظلّة المطر وذهبت. لن تعود أبدًا بعد هذه الليلة.

كان المطر في النهايات عندما ظهر متشرد في الشارع في يده ساندوتش يريد أن يبيعه. يأكل منه جزءا ويقوم بعرض الباقي منه على المارة الذين تأففوا ونهروه وهم يتفادون المطر في استعجال.

تابعت النظر للمتشرد، كلانا يحاول عقد صفقة رابحة بشروط مستحيلة. حاولت حينها استحضار فكرة لامعة وحزينة تناسب حالة الفقدان التي تمت منذ دقائق أو على الأقل تُشعرني بأن كل شيء سيكون على مايرام ولكن شيئًا لم يحدث!
دفعت حساب المطعم وذهبت. طبعًا لم أُفكر في احضار مظلة للمطر وكان هذا النسيان تجسيدا ثلاثي الأبعاد لعلاقتنا: هي تخطط وتحسب كل خطوة. كل فعل وكل شيء هو معادلة متساوية الأطراف فيها ربح وخسارة؟ أما أنا فقد نسيت حتى أن أحضرالجاكتب في أسوأ ليالي نيويورك شتاءا

دفعت للمتشرد دولارين وأخذت منه الساندوتش وجعلته الرابح الوحيد في ليلةٍ كلها خسائر. على عتبات المترو وجدت متشرد آخر يستجدي مالًا. تركت له بقايا الساندوتش وركبت أول مترو قادم دون جهة محددة.

جلستُ على أحد المقاعد مُبللًا مثل عصفور خرج لتوّه من بحر الوحل. ثبتُ نظري على قطرات الماء وهي تتساقط من جسدي على أرض المترو ومع كل قطرة مطر تسقط، كان يسقط معها أشياء كثيرة لن تعود.  قطع خلوتي مع تعداد قطرات المطر صوت فتاة كانت تجلس على المقعد المقابل. لم الاحظ جمالها عندما دخلت العربة. قالت:
- يا له من يومٍ سيئ
اتفقت معها :
- نعم إنه يوم سيئ
ثم أكملت الجملة لنفسي بصوت خفيض:
- إنه يوم سيئ للفراق
سألتني:
- ماذا قلت؟ لم أسمعك
أعدت عليها ما قلته بصوتٍ عالٍ كاد ينتصر على صوت عجلات القطار وهي تضرب القضبان:
- إنه يوم سيئ للفراق
ضحكت وهي تُلملك أشياءها استعدادا للنزول في المحطة القادمة:
- لا يوجد يوم جيد لتلك الأشياء. مساءك سعيد

الحكاية الحقيقية

لكن الحكاية، الحكاية الحقيقية، لا يعرفها أحد. هي بسيطة وقاسية ويجب أن تثير ضحكنا، ربما تقتلنا من الضحك  لكننا نعرف البكاء فقط، الشيء الوحيد الذي نفعله باقتناع هو البكاء.

- روبرتو بولانيو، ليل تشيلي
٢٠١٤ 

يولد الإنسان قلبًا


يُولد الإنسان قلبًا: مجرد قلب كبير وتفاصيل أخرى صغيرة
ومع كل يوم على هذه الأرض، تكبُر التفاصيل ويصغر القلب حتى يختفي.

نحن نكره الحياة


الكفر لا يعني بالضرروة عدم الإيمان بالآلهة أو النبوة أو الشريعة. ولكن الكفر في هذه المرحلة هو شعور مُقيم ربما يعنى عدم المقاومة وفقدان الرغبة في تغير أي شيء. إذا شكلنا كلمة (كفر) إلى (كَفْرُ) فسوف يتغير معناها إلى (ظُلمة الليل واسوداده). عدم إيمان، ظُلمة، يأس، استسلام كلها أبجديّات صائبة لتعريف العالم في هذه اللحظة من عمرنا. تتجسد السذاجة أو حتى العبَط عندما نسأل عن هدف الإنسان من العيش في الحياة في المطلق؟ بناء أسرة، قرية، مدينة، دولة، حضارة؟ مافائدة كل هذا؟

لن نستطيع إصلاح شيء نحن السبب الرئيسي في خرابة. ننعنت بعضنا البعض بكلمة (حيوان) في حالات السباب. الحيوان لا يدعو للحرب والدمار بهدف البناء. لا توجد حرب مقدسة لأنه باختصار كل الحروب جرائم. هناك حروب بلا سلاح أو عتاد أو رصاص. ولكن في النهاية نرى نفس الدم الذي خلقه الله بنفس اللون حتى نعرف أن الدم واحد حتى ولو تعددت أسباب إراقته. نحن نقتل بعضنا البعض بسبب تذكرة قطار، رأي، كلمة، قصة، أغنية، فيلم، كتاب، فستان، طرحة! نجيد خلق أسباب القتل وتبريره بكلمات رنانة. نحن نكره الحياة!

! ظل يرقص

وجدته جالسا على عتبات مسرح بيرم التونسى ينظر إلى الجانب الآخر من الشارع حيث كازينو الشاطبى الذى راحت معالمه وأصبح خرابة. صار الكازينو استعارة حقيقية وانعكاسًا ملموسًا لحالته الجديدة، لحية كثة وهندام ضائع وعلى وجهه مسحة حُزن. أخذ يُدندن وهو يرثي الأطلال التي يراها أمامه:
عجبى على بنت بيضة
جايه من بــلاد المغــرب
تقلع وتلبس ..
وتتزوق من المغرب
وجوزها راجل عبيط
بينام من المغـــــرب

ابتسمت له وقبل أن أنطق بحرف، قاطعني شارحًا:

بهذا الموال كان يبدأ المطرب جابر النمر فقرته الغنائية. يقف فى الظلام خلف المسرح، وفى يده الميكروفون الهوائى، يشعل خيال الجمهور الذكورى بمواويل يمكن تأويل معظمها إلى أحلام ومشاهد جنسية. وبعد أن تشتغل الآهات وضحكات السكارى الذين يسخرون من هذا البغل الذى ينام من المغرب، يظهر جابر النمر كالفارس المنتصر، ويسحب خلفه الراقصة سحر حمدى التى كانت تقضى على ما تبقى من عقل فى الرؤس الثملة. جابر كان " مسخناتي" لم يكن هو النجم الأول. كان ظهوره دائما فى الثلث الأول من الليل حيث لا يزال الحضور خفيف.
عندما ينتهى جابر من مهمته فى تسخين الحضور، تخفت الأضواء وتتعدد ألوانها إستعدادا لظهور البدر. شاويش المسرح يصرخ من أعماقه بصوت مُتحشرج: طلع البدر علينا.. طلع البدر علينا….

كان ينظر إلى الكازينو وهو حزين ربما لأن ذكرياته الراقصة تختفي في جدران الكازينو الذي يحتضر أمامه.
واصل كلامه بنفس النبرة الثابتة:

فى الطفولة، كنا ننظر إلى سواد البحر ونرى نقطة مضيئة فى الآفاق البعيدة. كنا نعرف أنها سفينة ونتساءل، كيف لهذة السفينة أن تعرف طريقها فى الظلمات؟ كانت الفنانة شفيقة كتلك السفينة، واثقة، ثابتة عندما تظهر على المسرح. تحمل الميكروفون فى يد، وفى يدها الأخرى سيجارة حشيش أطول من ليل المظلوم. موسيقى جابر النمر وأغانيه كانت مثل ذلك الشعور الذى يعتريك بعد أن تشرب كأس ويسكي رخيص، خبطة مفاجأة فى الرأس ثم تهدأ بعدها ممسكا برأسك شاكياً من مُرّ الصداع. أما شفيقة فكانت مثل سيجارة الحشيش الفاخر، تطير بك بين السحب إلى عوالم. تبدأ شفيقة طقوسها على المسرح بأخذ نفس عميق من السيجارة التى لا تنتهى ، ثم تحى الحضور والجمع السعيد. تبتسم لذلك الأستاذ الجالس هناك، تبعث بقبلة هوائية طائرة لهذا المعلم الواقف بعيدا. ثم تبدأ تتنحنح قليلا، تغمض عيناها إعجاباً عندما يبدأ عازف الأكورديون فى لعب نغم عفوى حزين. يرد عليه عازف الكمنجة بنغم أكثر بؤسا. دائما وابدأ سأعشق الأكورديون والكمنجة. يوما ما سيأتى عالم موسيقى ليكشف لنا العلاقة بين البحر والكمنجة والأكورديون وتعاسة العُشاق.

فجأة يهدأ المكان ولا تسمع سوى أنين الكمنجة عندما يضاجع نغم الأكورديون على موجات البحر، وتبدأ شفيقة :
دق الهوى دقة
فتحت له الشقة
سألنى قال خالى؟
أنا قلت له لأه
بعد اللى هنانى
احب من تانى؟
دى حتى مش لايقه
دق الهوى دقة

كازينو الشاطبى كان بهجة رخيصة بالنسبة لي، انظر إليه الآن. يقول الناس، أن رجل أعمال اشتراه حتى يعيد ترميمه وافتتاحه. لكنه ضحك على الحكومة وتركه مُهمل حتى يقع ويبنى مكانه عمارة أو برج سكنى قبيح. القُبح دائما ينتصر!

صمت فجأة وكأنه يستحضر الذكريات من أعماق البحر الساكن أمامنا. بدت آلاء إبتسامة واهنة تشق طريقها بصعوبة في مساحات الحزن الذى يحتل وجهه. قام من جلسته مستندا على عصاه، وأخذ يرقص فى منتصف الشارع بدون موسيقى. وظّل يرقص!

نيويورك- 2014

سلامة سلامة


(1)

رجع سلامة من السفر. لكنه لم يكن نفس" سلامة" الذي ودعته. نحل عوده وانطفأت روحه واحتلت هالات السواد فؤاده قبل عيونه.
 رحبتُ به وسألته  بلهفةٍ عن أخبار الأهل والبلاد. جلس على حافة سريره وهو يخلع عن جسده جاكت قديم ضاعت ملامحه. وضع بين قدميه  شنطة صغيرة هي كل ما رجع بها. فتحها وأخرج منها كيس لب أسمر:
هذا نصيبك. خُذه!

بعد "يناير"، لبّى سلامة نداءات العودة، بهرته بساطة الأماني بالعدل والحرية، فقرر أن يعود. باع محل الورد الذي يملكه فى نيويورك وسافر لبناء البلد كما كان يقول. سيطر الحماس على صوته وهو يرميني  بنظرات تتهمني بالخيانة وعدم الولاء للبلد الأم:
وجب علينا العودة والمساهمة فى البناء. 
ماذا عن ورودك التي تعشقها؟
هل رأيت منظر الورود البديع وهم يقومون بتنظيف الميدان وإعادة طلائه؟
لماذا لا تقوم الحكومة بذلك؟
أنت أناني لا تفكر إلا فى نفسك.
بل أنا أعول كوم من اللحم. إن غامرت بنفسي فلا أستطيع المقامرة بمستقبلهم.

حَزُنَ عندما باع المحل. كان يعشق الورود ويعرف أصنافها وتواريخها. يعامل الأزهار كدواء يشفي الأمراض. يسأل المشتري عن المناسبة لشراء الزهور، يستفسر عن الأسباب والأعراض والأغراض، وأخيرًا يقوم بترشيح الورود المناسبة تمامًا مثل الطبيب الذي يشخص الحالة قبل أن يكتب الروشتة. كانت له ضحكة رنانة عندما يبيع ورود لفتاة جميلة:
هذه الفتاة تنوي أن تصالح حبيبها بلا شك وإلا ما إشترت هذه الورود الحمراء! لكل حالة إنسانية لون، ولكل شعور وردة. حتى الموت له وروده. في بلادنا يبكون الموت وانتهاء الحياة، أما هنا فإنهم يحتفلون بالحياة السعيدة التي عاشها الفقيد.
وإن كانت حياة الفقيد شقاء، فبما يحتفلون؟
رمقني بنظرة تنعتني بالقسوة وعدم اجادة أي شيء إلا الأرقام والحقائق الموجعة.

اختلفنا في حُب البلد وسافر سلامة محملًا بأثقال من الآمال الكافية لتحرير قارة وبناء جيل كامل من المخلصين:
سوف يتولى الشباب الحقائب الوزارية. سوف نناقش ميزانية الجيش في برلمان قوي يراقب الحكومة ويحاسبها. سوف يكون هناك قضاء حُر. الشرطة حقًا ستكون فى خدمة الشعب، أخيرًا سيكون لدينا رئيس مدنيّ منتخب!

(2)

طار سلامة إلى البلاد متعجلًا الوصول، استبدل مقعده على الطائرة  بأجنحة أحلامه الوردية . نذر نفسه وماله للتغيير والبناء في الوطن المثالي الجديد. ذهبت أودعه فى المطار وابتسامة الفخر لا تفارق وجهه. كرّر طلبه:
فكّر جيدًا في أمر العودة. لقد عشنا حياتنا القصيرة نحلم بهذا اليوم. وُلدنا عندما وُلد قانون الطوارئ. لم نرَ سوى القهر والظلم. البلد الآن فى حاجة إلى أمثالنا.
لم أعرف ماذا يقصد بـ أمثالنا. هل يقصد أصحاب المال والدولارات؟ أم أصحاب الشهادات؟  أم أولئك الذين هجروا الأرض والأهل بلا هدف سوى الهروب؟

لم أتواصل مع سلامة ولم يتصل بي هو الآخر. فقط كنت أتابع الأخبار وأفكر فيه وفي أحلامه. بمرور كل يوم، أرى العديد أمثال سلامة ممن ماتوا أو اختفوا دون أن يعلم عنهم أحد شئيًا أو إنتهى بهم المطاف خلف القضبان!

السحب التي حَبُلت يومًا بالأمل، أمطرت وحلًا. رغبة المشاركة في البناء، تبدلت إلى محاولات جادة للنجاة. بعد سنوات قليلة، هاتفني بصوتٍ مهزوم يطلب مني أن أشتري له تذكرة حتى يعود! لم أعترض بُخلًا مني و لكني سألته عن ماله الكثير الذي حوله قبل سفره وأخذه معه:
سرقوا كل شئ. المال كان أرخص المسروقات!

أرسلت له التذكرة. اليوم استقبلته عائدًا بلا ابتسامة، بلا حماسة، بلا أحلام. اشتريت له زهورًا عديدة مختلفة الألوان ترحيبًا بعودته. أخذها مني ثم رماها في صفيحة القمامة  ونحن في طريقنا إلى السيارة.




عندما تُتلى الحكايات


تُتلى  الحكايات بحثًا عن انتصار
عن عودة ليس لها افتراق
عندما تُتتلى الحكايات..
تتجاهل الطيور أجنحتها
تتوقف الزهور عن نموها
ويصمت قلب الكون

شباك أم سامي

نُشرت فى عربي ٢٢


(1)
عشقت أم سامي الموسيقى ولذلك لم تعترض عندما قال لها سامي أنه سوف يمتنع عن الذهاب إلى المدرسة حتى يتمكن من تشكيل فرقة موسيقى لإحياء حفلات الأفراح.

ورثت أم سامي عن المرحوم زوجها عمارة صغيرة من خمسة طوابق ودكانين صغيرين. قامت بتأجير العمارة كلها عدا الدكانين، تركتهما لسامي يستثمرهما عندما يصبح رجل. سكنت هي وسامي في فى الدور الأرضي حيث يوجد شباك الصالة الذي يطل على الشارع وما يدور به من حياة. تجلس على كرسي متهالك تنظر من الشباك وبيدها سيجارة دائمة وفنجان قهوة انتشرت عليه ورود حمراء وفى الخلفية ،رغم ضجيج الشارع، تسمع صدى أغنيات قديمة لمطربين من الأسكندرية لا يعرفهم الكثيرون أمثال حسن حسان وإبراهيم عبد الشفيع.

ردت على طلب سامي بعد أن ألقت السيجارة فى الشارع:
لابد أن تكون فرقة موسيقية مختلفة. إذا كنت سوف تغني "بسم الله الرحمن الرحيم نبدأ الليلة" مثل عوكل وفتحي يوسف ومحمود أبو لطعة، البقاء في المدرسة أفيد لك ولنا جميعًا.

هنا قدمني سامي كدليل حي على أن الفرقة الموسيقية سوف تغني فقط كل ما هو جديد. قال لها أني سوف أقوم بكتابة أغنيات جديدة للفرقة. طلبت مني أن ألقي عليها بعض ما كتبت وهي تُشعل سيجارة جديدة. لم أعلم حينها أني أمام لجنة إستماع للحكم على ما أكتب من أشعار. بعد المحاولة الثالثة مع الكبريت، نجحت أم سامي في إشعال السيجارة وأمرتني بصوت يقطعه دخان النفس الأول:
أطربني يا ولاه


(2)
ظهرت نتيجة الإعدادية في الرابعة فجرًا. كان صيف الأسكندرية يزفر نارًا في الثانية ظهرًا عندما وقفت أمام المدرسة منتظرًا إعلان النتيجة. يخرج عم مختار فرّاش المدرسة يصبرنا كل نصف ساعة بأن النتيجة سوف تظهر في الساعة القادمة. لم تأتِ هذه الساعة إلا عندما جاء نداء الفجر من مساجد بعيدة متفرقة وعندها خرج عم مختار بالبشارة. رجعت البيت ومعي من الفخر ما لا أستطيع أن أحمله. فقد جاء ترتيبي الأول على المدرسة.

لم يأخذ أبي بالأسباب، ولم تنتصر نتيجة تفوقي على غضبة. كان يقف فى شرفة منزلنا غاضبًا ليس قلقًا على غيابي ولكن لأنه تأخر عن ميعاد نومه واستماعه طوال الليل إلى بكاء أمي وقلقها وقصصها التي لا تنتهي عن أولاد فى مثل عمري غرقوا في البحر أو تم خطفهم عن طريق أحد العصابات. 

 فتح ابي الباب وكان على وشك أن يصفعني. لو أراد أن يصفعني حقًا، لفعلها بسهولة. ولكنه أخذ وقته حتى يعطي أمي الفرصة كي تقوم من مجلسها لتدافع عني بكل جسارة بعد أن ملئت رأسه طول الليل بالغضب تجاهي. في محاولة هروبي السلهة وأنا أحتمي خلف أمي لوّحت له بالشهادة في يدي وبيان الدرجات معلنًا أني الأول على المدرسة. كان قد قرر فى نفسه أن يذهب لينام وأنه واجبه قد انتهى فى هذا المشهد الدرامي الناجح، بعد أخذ خطوتين في طريقه إلى غرفته،قال لي ساخرًا:
هل سيتم تعينك غدًا فى الديوان بالإعدادية غدًا يا ابن الكلب.

(3)
قلت لأم سامي أن ما أكتبه الآن يختلف بالتأكيد عما سوف أكتبه لفرقة سامي الموسيقية. قالت لي وهي تنظر إلى نقطة مجهولة في الشارع:
الشيخ سيد وبدارة كانا يغنيان في الأفراح. أسمعني أي شيء مما كتبت
لم أكن جاهزًا لهذا الإمتحان وبعد أن استدعيت أجمل ما أحفظ، قاطعتني أم سامي بعد الجملة الأولى وهي تضحك:
يا ولاه هذه الأشعار تضحك بها على البنت ابتهال بنت توحة كي تجر قدمها إلى السرير. ما لهذا الكلام بالأفراح.
ثم تركت أم سامي مقعدها الشهير خلف الشباك وتحركت في اتجاه أحد كنبات الصالة لتُخرج من تحتها صندوق أبيض صغير وأخذت منه شريط كاسيت لصباح:
أسمر أسمر.. طيب ماله..هو سماره ..سر جماله
ثم تبع صباح أغاني غزل كثيرة لأصحاب البشرة السمراء
(4)
لم يحتاج سامي لأغنية واحدة من أشعاري. كثرت صناديق أم سامي البيضاء وأخرجت كنوزها المدفونة من الأغاني. علمّت سامي أغاني عايدة الشاعر وليلى نظمي وأغاني أخرى من التراث السكندري التي لا علاقة لها بالأفراح. بدأ سامي فى البروفات فى أحد دكاكينه المغلقة. تخلّت أم سامي عن الكاسيت الذي كان دائمًا في خلفية  شباكها وبدأت تسمع لسامي وفرقته يغنون الأغاني التي تحبها. لم تؤتي الفرقة بثمارها. لم يغني سامي في فرح واحد. البروفات مستمرة لإشباع رغبة أم سامي في سماع ما تحب من أغاني.

بعدما تلاحقت أيام الصيف وتسلل الخريف ينفث في سماء الإسكندرية نسمات رقيقة ويلوّن السماء باللون الأبيض، لم يكن فراقي عن شباك أم سامي سهلًا. علم أبي بفرقة شباك أم سامي وجاء ذات أصيل يطلب من أمي أن تهنئني لأني أصبحت شاعرًا لفرقة عوالم قد الدنيا.

 الحق أقول، لم يخش أي من أبي أو أمي انحرافي وكانا شديدي الثقة بتفوقي لذلك لم أنقطع عن شباك أم سامي الذي لم يمثل أي انحراف على الإطلاق. أذهب إليها متى استطعت استمع إلى تعليقاتها على الأغاني القادمة من الدكان. تنظر إلى نفس النقطة المجهولة في الشارع وهي تدندن مع سامي أغنيات فى جمال السُمر. تسألني وهي تشعل أحد سجائرها إذا كنت قد ضاجعت ابتهال بعد؟ أبتسم خجلا فتضحك هي وتلوم هذا التأخير على أشعاري الرديئة.

الموتى يعشقون الحياة


أشتاق لمن ماتوا..
خجل جدتي عندما تضع يدها على فمها وهى تضحك. سخرية والدي من فريق الكرة الذي نشجعه سويًا ولكنه يتبرأ منه عندما نشاهد المبارة معاً  فقط كيى يغيظني مازحًا. صوت عادل وهو يغني أغاني غريبة من التراث لا يعرفها إلا هو. أحلام داليا فى أن تصبح نجمة تبخرت فى حطام سيارة. طيبة محمد فاضل التي كانت تحتوي الكون رحلت في صمت مثل صوته الهادئ وموته الخالي من الضجيج. وتلك الطبيبة التي يشهد بنبلها الجميع. طالما فكرّت فى هذا العدو وهذا النزال الغير متكافئ.
فى الفيلم الأمريكي الكرتوني coco،يوجد للموتى حياة وفى حياة الموتى سعادة واشتياق للقاء. فى مدينة الموتى الرمادية يتسكع الراحلون، يمضون الوقت الذي لا يملكون غيره حتى يتم اللقاء. كُبري من الزهور الحمراء يربط الحياتين: الموتى والأحياء.

عندما يشتاق الميت للقاء من ترك، يذهب ليعبر كبري الورود الحمراء. يقف على مدخل الكبري رجل أمن قبيح الهيئة. يأمر الميت المشتاق أن ينظر إلى كاميرا مثبتة أمامه كي يلتقط صورته لتظهر صورة هذا الميت المشتاق فى بلاد الأحياء فى الحال.

لابد أن يكون للميت المشتاق الذي يريد عبور الكبري صورة له معلقة في أحد منازل الأحياء حتى يسمح له بعبور الكبري. إذا لم تكن له صورة معلقة فى بلاد الأحياء فمعنى هذا أنه من الموتى المنسين ولا يسمح له بالعبور وعندما يصبح أي ميت من المنسين فإنه يموت حقًا ويترك حتى بلاد الموتى.

أقلب صور من ماتوا فى يدي. أتذكر اللحظات التي التقطت فيها الصور. أعلقها على الحائط ثم أنظر إلى الباب حتى يدخل أحدهم

في مديح التشاؤم وذم الأمل


 (1)
قال سائق التاكسي: لم تشهد الإسكندرية مثل هذه الأجواء منذ أن ضرب الإنجليز المدينة. انظر إلى البحر يا أستاذ. سنتيمترات قليلة وتأتي أمواجه وتجلس جوارك فى مقعد التاكسي. ثم ضحك على بلاغته فى وصف البحر الغاضب لم أجادله أو أقتل روايته. لم أقل له بأن ضرب الإسكندرية كان فى يوليو وأن الأجواء كانت أكثر صفاء -من يومنا هذا- إلا من دخان المدافع والقنابل. ولكنى نظرت إلى البحر كما أمرني لأرى أمواجه العالية تخرج عن الشاطئ لتغسل بلاطات الكورنيش وسط ضحكات بعض المارة المتهورين. كانت قطرات الشتاء مثل كرات زجاجية كبيرة، عندما تضرب زجاج شباك التاكسي المتهالك، تنشطر لقطرات كثيرة صغيرة. يفرح السائق بها ويأمرني فى سعادة بالنظر إلى قطرات المطر.
(2)
فى المطعم المزدحم، وقفت فتاة عشرينية تصرخ فى أمها الجالسة على المائدة بأنها تكرهها..تكرهها أكثر من العمى والمرض والحروب. لم تخف الفتاة من قسوة مشاعرها ولم تنتظر مكان مناسب ليكون الألم أكثر جرحا. سكبت مشاعرها على طاولة الطعام وأخذت جاكت ثقيل معلق على مقعدها وارتدته فى هدوء وقصدت الباب. تركت الفتاة أمها حائرة تدافع عن نفسها من العيون التي تلتهمها متساءلة عن فعلتها. الكراهية فعل شجاع يتطلب قسوة وثبات وطقوس وتحضيرات. هل تحتاج الكراهية إلى تدريبات عسيرة حتى يصير هذا الفعل الكريه بهذه السهولة؟
(3)
آلن دو بوتون كتب عن الفيلسوف الروماني سنكا الذي قال أنه يجب علينا اتقان فن التشاؤم وذم الأمل. الإفراط فى الأمل هو سبب كل الإحباطات الإنسانية. فى بعض الأحيان يكون التشاؤم أحد طرق المقاومة والطريقة الوحيدة للاحتماء من الخيبات الأكثر ألماً. عادة الإنسان أن يتخيل عالمًا أحسن مما لديه وأسوأ من الذي يعيش فيه.