وجدته جالسا على عتبات مسرح بيرم التونسى ينظر إلى الجانب الآخر من الشارع حيث كازينو الشاطبى الذى راحت معالمه وأصبح خرابة. صار الكازينو استعارة حقيقية وانعكاسًا ملموسًا لحالته الجديدة، لحية كثة وهندام ضائع وعلى وجهه مسحة حُزن. أخذ يُدندن وهو يرثي الأطلال التي يراها أمامه:
عجبى على بنت بيضة
جايه من بــلاد المغــرب
تقلع وتلبس ..
وتتزوق من المغرب
وجوزها راجل عبيط
بينام من المغـــــرب
ابتسمت له وقبل أن أنطق بحرف، قاطعني شارحًا:
بهذا الموال كان يبدأ المطرب جابر النمر فقرته الغنائية. يقف فى الظلام خلف المسرح، وفى يده الميكروفون الهوائى، يشعل خيال الجمهور الذكورى بمواويل يمكن تأويل معظمها إلى أحلام ومشاهد جنسية. وبعد أن تشتغل الآهات وضحكات السكارى الذين يسخرون من هذا البغل الذى ينام من المغرب، يظهر جابر النمر كالفارس المنتصر، ويسحب خلفه الراقصة سحر حمدى التى كانت تقضى على ما تبقى من عقل فى الرؤس الثملة. جابر كان " مسخناتي" لم يكن هو النجم الأول. كان ظهوره دائما فى الثلث الأول من الليل حيث لا يزال الحضور خفيف.
عندما ينتهى جابر من مهمته فى تسخين الحضور، تخفت الأضواء وتتعدد ألوانها إستعدادا لظهور البدر. شاويش المسرح يصرخ من أعماقه بصوت مُتحشرج: طلع البدر علينا.. طلع البدر علينا….
كان ينظر إلى الكازينو وهو حزين ربما لأن ذكرياته الراقصة تختفي في جدران الكازينو الذي يحتضر أمامه.
واصل كلامه بنفس النبرة الثابتة:
فى الطفولة، كنا ننظر إلى سواد البحر ونرى نقطة مضيئة فى الآفاق البعيدة. كنا نعرف أنها سفينة ونتساءل، كيف لهذة السفينة أن تعرف طريقها فى الظلمات؟ كانت الفنانة شفيقة كتلك السفينة، واثقة، ثابتة عندما تظهر على المسرح. تحمل الميكروفون فى يد، وفى يدها الأخرى سيجارة حشيش أطول من ليل المظلوم. موسيقى جابر النمر وأغانيه كانت مثل ذلك الشعور الذى يعتريك بعد أن تشرب كأس ويسكي رخيص، خبطة مفاجأة فى الرأس ثم تهدأ بعدها ممسكا برأسك شاكياً من مُرّ الصداع. أما شفيقة فكانت مثل سيجارة الحشيش الفاخر، تطير بك بين السحب إلى عوالم. تبدأ شفيقة طقوسها على المسرح بأخذ نفس عميق من السيجارة التى لا تنتهى ، ثم تحى الحضور والجمع السعيد. تبتسم لذلك الأستاذ الجالس هناك، تبعث بقبلة هوائية طائرة لهذا المعلم الواقف بعيدا. ثم تبدأ تتنحنح قليلا، تغمض عيناها إعجاباً عندما يبدأ عازف الأكورديون فى لعب نغم عفوى حزين. يرد عليه عازف الكمنجة بنغم أكثر بؤسا. دائما وابدأ سأعشق الأكورديون والكمنجة. يوما ما سيأتى عالم موسيقى ليكشف لنا العلاقة بين البحر والكمنجة والأكورديون وتعاسة العُشاق.
فجأة يهدأ المكان ولا تسمع سوى أنين الكمنجة عندما يضاجع نغم الأكورديون على موجات البحر، وتبدأ شفيقة :
دق الهوى دقة
فتحت له الشقة
سألنى قال خالى؟
أنا قلت له لأه
بعد اللى هنانى
احب من تانى؟
دى حتى مش لايقه
دق الهوى دقة
كازينو الشاطبى كان بهجة رخيصة بالنسبة لي، انظر إليه الآن. يقول الناس، أن رجل أعمال اشتراه حتى يعيد ترميمه وافتتاحه. لكنه ضحك على الحكومة وتركه مُهمل حتى يقع ويبنى مكانه عمارة أو برج سكنى قبيح. القُبح دائما ينتصر!
صمت فجأة وكأنه يستحضر الذكريات من أعماق البحر الساكن أمامنا. بدت آلاء إبتسامة واهنة تشق طريقها بصعوبة في مساحات الحزن الذى يحتل وجهه. قام من جلسته مستندا على عصاه، وأخذ يرقص فى منتصف الشارع بدون موسيقى. وظّل يرقص!
نيويورك- 2014
عجبى على بنت بيضة
جايه من بــلاد المغــرب
تقلع وتلبس ..
وتتزوق من المغرب
وجوزها راجل عبيط
بينام من المغـــــرب
ابتسمت له وقبل أن أنطق بحرف، قاطعني شارحًا:
بهذا الموال كان يبدأ المطرب جابر النمر فقرته الغنائية. يقف فى الظلام خلف المسرح، وفى يده الميكروفون الهوائى، يشعل خيال الجمهور الذكورى بمواويل يمكن تأويل معظمها إلى أحلام ومشاهد جنسية. وبعد أن تشتغل الآهات وضحكات السكارى الذين يسخرون من هذا البغل الذى ينام من المغرب، يظهر جابر النمر كالفارس المنتصر، ويسحب خلفه الراقصة سحر حمدى التى كانت تقضى على ما تبقى من عقل فى الرؤس الثملة. جابر كان " مسخناتي" لم يكن هو النجم الأول. كان ظهوره دائما فى الثلث الأول من الليل حيث لا يزال الحضور خفيف.
عندما ينتهى جابر من مهمته فى تسخين الحضور، تخفت الأضواء وتتعدد ألوانها إستعدادا لظهور البدر. شاويش المسرح يصرخ من أعماقه بصوت مُتحشرج: طلع البدر علينا.. طلع البدر علينا….
كان ينظر إلى الكازينو وهو حزين ربما لأن ذكرياته الراقصة تختفي في جدران الكازينو الذي يحتضر أمامه.
واصل كلامه بنفس النبرة الثابتة:
فى الطفولة، كنا ننظر إلى سواد البحر ونرى نقطة مضيئة فى الآفاق البعيدة. كنا نعرف أنها سفينة ونتساءل، كيف لهذة السفينة أن تعرف طريقها فى الظلمات؟ كانت الفنانة شفيقة كتلك السفينة، واثقة، ثابتة عندما تظهر على المسرح. تحمل الميكروفون فى يد، وفى يدها الأخرى سيجارة حشيش أطول من ليل المظلوم. موسيقى جابر النمر وأغانيه كانت مثل ذلك الشعور الذى يعتريك بعد أن تشرب كأس ويسكي رخيص، خبطة مفاجأة فى الرأس ثم تهدأ بعدها ممسكا برأسك شاكياً من مُرّ الصداع. أما شفيقة فكانت مثل سيجارة الحشيش الفاخر، تطير بك بين السحب إلى عوالم. تبدأ شفيقة طقوسها على المسرح بأخذ نفس عميق من السيجارة التى لا تنتهى ، ثم تحى الحضور والجمع السعيد. تبتسم لذلك الأستاذ الجالس هناك، تبعث بقبلة هوائية طائرة لهذا المعلم الواقف بعيدا. ثم تبدأ تتنحنح قليلا، تغمض عيناها إعجاباً عندما يبدأ عازف الأكورديون فى لعب نغم عفوى حزين. يرد عليه عازف الكمنجة بنغم أكثر بؤسا. دائما وابدأ سأعشق الأكورديون والكمنجة. يوما ما سيأتى عالم موسيقى ليكشف لنا العلاقة بين البحر والكمنجة والأكورديون وتعاسة العُشاق.
فجأة يهدأ المكان ولا تسمع سوى أنين الكمنجة عندما يضاجع نغم الأكورديون على موجات البحر، وتبدأ شفيقة :
دق الهوى دقة
فتحت له الشقة
سألنى قال خالى؟
أنا قلت له لأه
بعد اللى هنانى
احب من تانى؟
دى حتى مش لايقه
دق الهوى دقة
كازينو الشاطبى كان بهجة رخيصة بالنسبة لي، انظر إليه الآن. يقول الناس، أن رجل أعمال اشتراه حتى يعيد ترميمه وافتتاحه. لكنه ضحك على الحكومة وتركه مُهمل حتى يقع ويبنى مكانه عمارة أو برج سكنى قبيح. القُبح دائما ينتصر!
صمت فجأة وكأنه يستحضر الذكريات من أعماق البحر الساكن أمامنا. بدت آلاء إبتسامة واهنة تشق طريقها بصعوبة في مساحات الحزن الذى يحتل وجهه. قام من جلسته مستندا على عصاه، وأخذ يرقص فى منتصف الشارع بدون موسيقى. وظّل يرقص!
نيويورك- 2014
No comments:
Post a Comment