الحكاية الحقيقية

لكن الحكاية، الحكاية الحقيقية، لا يعرفها أحد. هي بسيطة وقاسية ويجب أن تثير ضحكنا، ربما تقتلنا من الضحك  لكننا نعرف البكاء فقط، الشيء الوحيد الذي نفعله باقتناع هو البكاء.

- روبرتو بولانيو، ليل تشيلي
٢٠١٤ 

يولد الإنسان قلبًا


يُولد الإنسان قلبًا: مجرد قلب كبير وتفاصيل أخرى صغيرة
ومع كل يوم على هذه الأرض، تكبُر التفاصيل ويصغر القلب حتى يختفي.

نحن نكره الحياة


الكفر لا يعني بالضرروة عدم الإيمان بالآلهة أو النبوة أو الشريعة. ولكن الكفر في هذه المرحلة هو شعور مُقيم ربما يعنى عدم المقاومة وفقدان الرغبة في تغير أي شيء. إذا شكلنا كلمة (كفر) إلى (كَفْرُ) فسوف يتغير معناها إلى (ظُلمة الليل واسوداده). عدم إيمان، ظُلمة، يأس، استسلام كلها أبجديّات صائبة لتعريف العالم في هذه اللحظة من عمرنا. تتجسد السذاجة أو حتى العبَط عندما نسأل عن هدف الإنسان من العيش في الحياة في المطلق؟ بناء أسرة، قرية، مدينة، دولة، حضارة؟ مافائدة كل هذا؟

لن نستطيع إصلاح شيء نحن السبب الرئيسي في خرابة. ننعنت بعضنا البعض بكلمة (حيوان) في حالات السباب. الحيوان لا يدعو للحرب والدمار بهدف البناء. لا توجد حرب مقدسة لأنه باختصار كل الحروب جرائم. هناك حروب بلا سلاح أو عتاد أو رصاص. ولكن في النهاية نرى نفس الدم الذي خلقه الله بنفس اللون حتى نعرف أن الدم واحد حتى ولو تعددت أسباب إراقته. نحن نقتل بعضنا البعض بسبب تذكرة قطار، رأي، كلمة، قصة، أغنية، فيلم، كتاب، فستان، طرحة! نجيد خلق أسباب القتل وتبريره بكلمات رنانة. نحن نكره الحياة!

! ظل يرقص

وجدته جالسا على عتبات مسرح بيرم التونسى ينظر إلى الجانب الآخر من الشارع حيث كازينو الشاطبى الذى راحت معالمه وأصبح خرابة. صار الكازينو استعارة حقيقية وانعكاسًا ملموسًا لحالته الجديدة، لحية كثة وهندام ضائع وعلى وجهه مسحة حُزن. أخذ يُدندن وهو يرثي الأطلال التي يراها أمامه:
عجبى على بنت بيضة
جايه من بــلاد المغــرب
تقلع وتلبس ..
وتتزوق من المغرب
وجوزها راجل عبيط
بينام من المغـــــرب

ابتسمت له وقبل أن أنطق بحرف، قاطعني شارحًا:

بهذا الموال كان يبدأ المطرب جابر النمر فقرته الغنائية. يقف فى الظلام خلف المسرح، وفى يده الميكروفون الهوائى، يشعل خيال الجمهور الذكورى بمواويل يمكن تأويل معظمها إلى أحلام ومشاهد جنسية. وبعد أن تشتغل الآهات وضحكات السكارى الذين يسخرون من هذا البغل الذى ينام من المغرب، يظهر جابر النمر كالفارس المنتصر، ويسحب خلفه الراقصة سحر حمدى التى كانت تقضى على ما تبقى من عقل فى الرؤس الثملة. جابر كان " مسخناتي" لم يكن هو النجم الأول. كان ظهوره دائما فى الثلث الأول من الليل حيث لا يزال الحضور خفيف.
عندما ينتهى جابر من مهمته فى تسخين الحضور، تخفت الأضواء وتتعدد ألوانها إستعدادا لظهور البدر. شاويش المسرح يصرخ من أعماقه بصوت مُتحشرج: طلع البدر علينا.. طلع البدر علينا….

كان ينظر إلى الكازينو وهو حزين ربما لأن ذكرياته الراقصة تختفي في جدران الكازينو الذي يحتضر أمامه.
واصل كلامه بنفس النبرة الثابتة:

فى الطفولة، كنا ننظر إلى سواد البحر ونرى نقطة مضيئة فى الآفاق البعيدة. كنا نعرف أنها سفينة ونتساءل، كيف لهذة السفينة أن تعرف طريقها فى الظلمات؟ كانت الفنانة شفيقة كتلك السفينة، واثقة، ثابتة عندما تظهر على المسرح. تحمل الميكروفون فى يد، وفى يدها الأخرى سيجارة حشيش أطول من ليل المظلوم. موسيقى جابر النمر وأغانيه كانت مثل ذلك الشعور الذى يعتريك بعد أن تشرب كأس ويسكي رخيص، خبطة مفاجأة فى الرأس ثم تهدأ بعدها ممسكا برأسك شاكياً من مُرّ الصداع. أما شفيقة فكانت مثل سيجارة الحشيش الفاخر، تطير بك بين السحب إلى عوالم. تبدأ شفيقة طقوسها على المسرح بأخذ نفس عميق من السيجارة التى لا تنتهى ، ثم تحى الحضور والجمع السعيد. تبتسم لذلك الأستاذ الجالس هناك، تبعث بقبلة هوائية طائرة لهذا المعلم الواقف بعيدا. ثم تبدأ تتنحنح قليلا، تغمض عيناها إعجاباً عندما يبدأ عازف الأكورديون فى لعب نغم عفوى حزين. يرد عليه عازف الكمنجة بنغم أكثر بؤسا. دائما وابدأ سأعشق الأكورديون والكمنجة. يوما ما سيأتى عالم موسيقى ليكشف لنا العلاقة بين البحر والكمنجة والأكورديون وتعاسة العُشاق.

فجأة يهدأ المكان ولا تسمع سوى أنين الكمنجة عندما يضاجع نغم الأكورديون على موجات البحر، وتبدأ شفيقة :
دق الهوى دقة
فتحت له الشقة
سألنى قال خالى؟
أنا قلت له لأه
بعد اللى هنانى
احب من تانى؟
دى حتى مش لايقه
دق الهوى دقة

كازينو الشاطبى كان بهجة رخيصة بالنسبة لي، انظر إليه الآن. يقول الناس، أن رجل أعمال اشتراه حتى يعيد ترميمه وافتتاحه. لكنه ضحك على الحكومة وتركه مُهمل حتى يقع ويبنى مكانه عمارة أو برج سكنى قبيح. القُبح دائما ينتصر!

صمت فجأة وكأنه يستحضر الذكريات من أعماق البحر الساكن أمامنا. بدت آلاء إبتسامة واهنة تشق طريقها بصعوبة في مساحات الحزن الذى يحتل وجهه. قام من جلسته مستندا على عصاه، وأخذ يرقص فى منتصف الشارع بدون موسيقى. وظّل يرقص!

نيويورك- 2014

سلامة سلامة


(1)

رجع سلامة من السفر. لكنه لم يكن نفس" سلامة" الذي ودعته. نحل عوده وانطفأت روحه واحتلت هالات السواد فؤاده قبل عيونه.
 رحبتُ به وسألته  بلهفةٍ عن أخبار الأهل والبلاد. جلس على حافة سريره وهو يخلع عن جسده جاكت قديم ضاعت ملامحه. وضع بين قدميه  شنطة صغيرة هي كل ما رجع بها. فتحها وأخرج منها كيس لب أسمر:
هذا نصيبك. خُذه!

بعد "يناير"، لبّى سلامة نداءات العودة، بهرته بساطة الأماني بالعدل والحرية، فقرر أن يعود. باع محل الورد الذي يملكه فى نيويورك وسافر لبناء البلد كما كان يقول. سيطر الحماس على صوته وهو يرميني  بنظرات تتهمني بالخيانة وعدم الولاء للبلد الأم:
وجب علينا العودة والمساهمة فى البناء. 
ماذا عن ورودك التي تعشقها؟
هل رأيت منظر الورود البديع وهم يقومون بتنظيف الميدان وإعادة طلائه؟
لماذا لا تقوم الحكومة بذلك؟
أنت أناني لا تفكر إلا فى نفسك.
بل أنا أعول كوم من اللحم. إن غامرت بنفسي فلا أستطيع المقامرة بمستقبلهم.

حَزُنَ عندما باع المحل. كان يعشق الورود ويعرف أصنافها وتواريخها. يعامل الأزهار كدواء يشفي الأمراض. يسأل المشتري عن المناسبة لشراء الزهور، يستفسر عن الأسباب والأعراض والأغراض، وأخيرًا يقوم بترشيح الورود المناسبة تمامًا مثل الطبيب الذي يشخص الحالة قبل أن يكتب الروشتة. كانت له ضحكة رنانة عندما يبيع ورود لفتاة جميلة:
هذه الفتاة تنوي أن تصالح حبيبها بلا شك وإلا ما إشترت هذه الورود الحمراء! لكل حالة إنسانية لون، ولكل شعور وردة. حتى الموت له وروده. في بلادنا يبكون الموت وانتهاء الحياة، أما هنا فإنهم يحتفلون بالحياة السعيدة التي عاشها الفقيد.
وإن كانت حياة الفقيد شقاء، فبما يحتفلون؟
رمقني بنظرة تنعتني بالقسوة وعدم اجادة أي شيء إلا الأرقام والحقائق الموجعة.

اختلفنا في حُب البلد وسافر سلامة محملًا بأثقال من الآمال الكافية لتحرير قارة وبناء جيل كامل من المخلصين:
سوف يتولى الشباب الحقائب الوزارية. سوف نناقش ميزانية الجيش في برلمان قوي يراقب الحكومة ويحاسبها. سوف يكون هناك قضاء حُر. الشرطة حقًا ستكون فى خدمة الشعب، أخيرًا سيكون لدينا رئيس مدنيّ منتخب!

(2)

طار سلامة إلى البلاد متعجلًا الوصول، استبدل مقعده على الطائرة  بأجنحة أحلامه الوردية . نذر نفسه وماله للتغيير والبناء في الوطن المثالي الجديد. ذهبت أودعه فى المطار وابتسامة الفخر لا تفارق وجهه. كرّر طلبه:
فكّر جيدًا في أمر العودة. لقد عشنا حياتنا القصيرة نحلم بهذا اليوم. وُلدنا عندما وُلد قانون الطوارئ. لم نرَ سوى القهر والظلم. البلد الآن فى حاجة إلى أمثالنا.
لم أعرف ماذا يقصد بـ أمثالنا. هل يقصد أصحاب المال والدولارات؟ أم أصحاب الشهادات؟  أم أولئك الذين هجروا الأرض والأهل بلا هدف سوى الهروب؟

لم أتواصل مع سلامة ولم يتصل بي هو الآخر. فقط كنت أتابع الأخبار وأفكر فيه وفي أحلامه. بمرور كل يوم، أرى العديد أمثال سلامة ممن ماتوا أو اختفوا دون أن يعلم عنهم أحد شئيًا أو إنتهى بهم المطاف خلف القضبان!

السحب التي حَبُلت يومًا بالأمل، أمطرت وحلًا. رغبة المشاركة في البناء، تبدلت إلى محاولات جادة للنجاة. بعد سنوات قليلة، هاتفني بصوتٍ مهزوم يطلب مني أن أشتري له تذكرة حتى يعود! لم أعترض بُخلًا مني و لكني سألته عن ماله الكثير الذي حوله قبل سفره وأخذه معه:
سرقوا كل شئ. المال كان أرخص المسروقات!

أرسلت له التذكرة. اليوم استقبلته عائدًا بلا ابتسامة، بلا حماسة، بلا أحلام. اشتريت له زهورًا عديدة مختلفة الألوان ترحيبًا بعودته. أخذها مني ثم رماها في صفيحة القمامة  ونحن في طريقنا إلى السيارة.