في صيام "الغربة" .. يتلون الجوع بدرجات قاتمة


نُشرت في المصري اليوم 9 إبريل 2022




في صيام "الغربة" يتلون الجوع بدرجات قاتمة.

قرقرة من نوع آخر تنهش الأرواح قبل البطون.  جوع إلى الأهل والصحاب والطقوس، وكل ما تركناه "هناك". نختصر معاني الوطن في كلمة "هناك". حروف ثلاثة نمدها جسورا وحبالا تربطنا بكل ما نحب ونفتقد.


قبل المغرب أذهب مع إبراهيم إلى كل مطعم في الحي العربي نستعرض ما يقدمون. نسافر خارج المدينة لمدة ساعة، لأننا سمعنا عن مطعم يقوم بعمل الخشاف على طريقة "هناك"

نصاب بخيبة أمل، ونقول في نفس واحد: ليس مثل "هناك"

نهرول إلى مطعم آخر أملًا في قطعة كنافة بلا أي تعديلات وتدخلات غريبة

نأكل.. ونتذكّر حمادة، وعندما نبحث عنه، نجدهُ جالسا على مقعد في مطار جون كينيدي. يغار من فرحة العائدين ودموع المودعين. 


عندما ننتهي من جميع المطاعم المتاحة، نقصدُ المسجد. نرى عم محمد جالسًا في ركن قصي. يحرك رأسه يمينًا ويسارًا ويرفع السبابة أحيانا كأنه في جدال عميق مع شخص لا نراه. 

عندما هاجر عم محمد، قال لزوجته وهو يودعها: سنتان وأعود يا وفاء.

 لم يفِ بالوعد، كان يتمم عامه الثلاثون في الغربة ونحن نسلم عليه في هذه الليلة.


 في العشر الأواخر من ليالي رمضان، يزداد عدد المتبرعين من أغنياء الجالية ويمتلأ المسجد بالخرفان المحشوة وأفضل أنواع الطعام. الكل يريد أن يلحق أوكازيون الخير قبل أن ينفضْ.

 يقف عم محمد في منتصف المسجد معترضًا: لا يوجد هنا فقراء..لماذا لا نرسل كل هذا الطعام إلى " هناك". يضيع سؤاله بين الحضور ولا يرد عليه أحد. في هذه اللحظة وبين جنبات المسجد، تاهت الكثير من الــ "هناك" فلا أحد يعرف أي "هناك" يقصد.


في رمضان "الغربة"، ينفجر الحنين مثل بركان راقد كان ينتظر زفير رضيع حتى يفور من الغليان. تنبعث الذكريات من تحت الرماد في  ثبات ومثابرة جيوش من النمل حتى تنحر عظامك.

كل حرف.. كل نفس .. كل رائحة تنتهي بنا إلى  "هناك"


أرقى مقعد في الذاكرة

 عندما افترقنا، تركتها في رأسي وقلبي كما هي.
افترقنا في قمة الحب والكمال. أجلستها في أرقى مقعد في الذاكرة. أعود إليها عندما يقتلني الشوق.

لم أحاول معرفة ما هو جديد معها أو كيف حالها وماذا تصنع الآن. حتى لا أرى جديد يهدم ما قد كان

بيت الظالم لا يرتفع

 وقف بجوار حقائب  سفره الكثيرة. كان عددها دليلا على أنه لن يعود قريبًا. كان ينصت إلى نصائح جده عن أوروبا وهو الذي لم يغادر القرية يوما.

قال جده:
بيت الظالم لا يرتفع أبدًا ولا تعلو له قائمة.

ودّعه وقصد أوروبا.

مات جده، وعندما رجع، وجد بيت جده وحيدًا محشورًا بين كُتل خرسانية قبيحه.

بيت جده هو البيت الوحيد الذي لم يرتفع في القرية!

نهاية مختلفة مع أن الأصل واحد

 عندما تقع زجاجة على الأرض، تنكسر إلى قطع صغيرة مختلفة الحجم والشكل. 

نهاية مختلفة مع أن الأصل واحد!

كيف نحب البيوت بعد موت الآباء؟

 بعد أن مات أبيه، توقف عن عزف الجيتار وقراءة الكتب ومشاهدة مبارايات الكرة. لم يكتب حرف.
كان الموت كائن خيالي يحدث فقط للأخرين.

بعدها اكتشف أن للموت أرجل تمشي بجوار الحياة يُحفز كل منهما الآخر على التقدم.  ظن أن لا أحد سوف يموت له بعد موت الأب.

مات له كثيرون حتى أصبح فهرسًا للموتي. وبعدما يموت الميّت، يظن خطئًا أنه الأخير

البعاد يمحو الأسى

 حين نكون بعيدين عن الوطن لا نتذكر فصول شتائه.

البعاد يمحو أسى الشتاء وذكريات القرى المُهملة ومشاهد الأطفال الحفاة في البرد. لا نتذكر إلا اخضرار الحقول وروائح زهور البرتقال والسماء الزرقاء.

وقصدتُها بلا موعد

 كان الشوق مثل جيوش النمل تزحف تحت جلدي بلا هوادة. حرب كانت بلا هُدنة أو أمل قريب في رفع الرايات البيضاء لإلتقاط بعض الأنفاس.
المواعيد تحكم على الشوق بالإعدام. لا يوجد للاشتياق تفاسير. أي عشق هذا الذي تُسيطر عليه الثواني والدقائق والساعات؟ العشق زمن، حيّز آخر، جدار فلكي عندما تقترب منه يسافر بك إلى عوالم مسحورة. الحب فعل متهور ليس له قوانين. إذا أصابه داء العقل، صار طقسًا مملًا مميتًا.

 كنت أفكر في كل هذا.. تلك الشجاعة التي لا يكون لها أي مصدر إلا بؤرة الاحتياج.. الآن.. في هذه اللحظة..عدم التأجيل.. العمر ليلة.. الحياة قصيرة.. أيام قليلة أعرف منها كل ما أستطيع أن أحمله معي عندما أعود.

خط واهن يفصل بين هذا الشعور الجميل ونقيضه المليء بالغضب والأنانية. أنانية العشاق في العشق، أن تأخذ أكثر، أو تأخذ بحجم ما تعطي.. أن تبخس العاشق حقه.. أن تتعادل الكفتان.

أخيرا، تلعن المعادلات والحسابات.. أن تكون فقط ما تكون.. خفيف مثل الريشة وسط عاصفة لا تعرف أين الهبوط

لا تثق في أحد يكره الموسيقى


 كرهتهُ عندما تذكرت أنه لا يحب الموسيقى بل يبغضها! كيف تحب أي شخص يكره الكُتب؟

كيف أجرمت الموسيقى حتى يُكوّن هذا الرأي القوي؟
حُزن الناي وانكساره يدعو إلى الشفقة لا الكراهية
مياصة الكمانجا وغنج الأوكرديون يدعوان إلى الحب
عظمة البيانو تدعو إلى الكبرياء

لم يُكوّن رأي بمثل هذه القوة عن الخراء الذي يحيا فيه وعندما يأتي الأمر للموسيقى ينتفض ويصرخ أنها عمل شيطاني. والظلم والقتل والسجون؟ أهي من صنع الملائكة؟

الموسيقى مثل الكتب تجعلك تحيا ألف حياة غير حياتك التعيسة التي لا تريد أن تتركها وتركض في الفضاء

ميّت حي

يجري خلف المحمل مثل المخبول..

سقطت عمامته البيضاء في الطين. إلتقطها بخفة ووضعها فوق رأسه غير عابئ بالوحل الذي غطى رأسه وكثير من وجهه.
يسابق المحمل إلى المقابر. كان يريد أن يأخذ مكانها في القبر.
ربما عادت إلى الحياة عندما تجد القبر مشغول بميّت يتنفس! 

لم يعتذر

 قالت:

لقد ساق ألف عُذر وعُذر…
قال لقد كان مزاجي ليس على مايرام، لقد كنت مرهقًا، لقد كنت أناني، شخص آخر جعلني أفعل هذا، إنه الخمر بالتأكيد، لم أفكر حينها، لم أكن شجاعا..

لقد جاء بكل الأعذار لكنه في النهاية لم يقل أنا آسف..لم يعتذر!

وجه مثلث

 كان وجهها مثلثي الشكل!
وعندما قال لنا مدرس الرياضيات أن أصحاب الوجوه المثلثية دائمًا أذكياء، لم يشغلني في مواهب جمالها سوى هذا الوجه.