… مَلّـعَـوَنَ أَبُوْكِ يَا طُمُوْحٌ

تذكرت عم محمد صالح فجأه بلا مقدمات. فأنا لم أر الرجل منذ سنوات ، ولكن هفت علىّ ذكراة العطره وريحه الطيب عندما إستمعت إلى تلك الأغنيه التعيسه لحمزه نمره عن السفر وتذاكر الطيران. عوّدت نفسى منذ أعوام مضت أن لا أتأثر بأغنيه أو إشاره أو بأى ذكرى حزينة كانت أم سعيده. رسمت عيون زجاجيه وقلب ثلجى فوق قسماتى الشرقيه. والحق أقول انى نجحت نجاح باهرحتى صرت أتفاخر بما وصلت اليه من جمود. ولكن الآن أتذكر عم محمد! ولما الآن؟ولما اليوم وانا بعيد كل البعد عن السفر والطائرات؟ إنها تلك الأغنيه التعيسه بلا أدنى شك. كيف حالك الآن يا عم محمد؟ أدعو الله ان تكون بخير وبصحه جيدة.
اول من شاركته مسكناً فى الغربه هو عم محمد صالح - ذلك الرجل البشوش المرح الذى وسعت إبتسامته كل شئ. كان كريم خيّر، متفائل إلى أبعد الحدود لدرجه أنى فكرت جديّاُ فى البحث عن مسكن آخر بعيداً عن هذا الرجل السعيد! كان مؤمن بلا ريب بأن لكل ضيق مخرجاً ولكل عقده حل وفرج وطريقه. ظن الرجل بأن الخير الموجود فى الدنيا قد فاق وكثرعن الشر بدرجات عُلى.
ذكر لى يوماً أنه عندما سافر أول مره قال لزوجته وهو يودعها أنه سوف يعود بعد ثلاثة سنوات لا يزيد. اليوم مرت أكثر من ثلاثة وثلاثين سنه وعم محمد مازال مغترباً حائراً. حضرت زوجته للمعيشه معه، كبر الأولاد وأصبح له من الأحفاد حفنه ولايزال الرجل يبحث عن حق العوده، وأبتسامته تعلو تلك القسمات التى تركت فيها الغربه علامات عميقه بطول نهر النيل
أتذكر هذه القصه وأنا أرى نفسى أصنع من خطواتى البسيطه عم محمد آخر جديد ولكن بلا ولد أو حفيد. أمشى فى نفس الدروب الضيقه التى تركها الرجل ولا أحيد عنها مقدار ذرة من خردل، و خلال هذه الخطوات قد مات من مات وخُلق من خُلق وتزوج من تزوج ،وها أنا ذا اكتب ما أكتبه الآن وانا فى منتصف الثلاثة وثلاثين سنه التى قضاها الرجل حالماً بالرجوع ! ولكنى لا احتوى على ما تسلّح به الرجل من تفاؤل وابتسامات وإيمان. فعتادي مختلف عن عتاده إختلاف الكُفر عن الإيمان والهدف فى إتجاه معاكس
اسمع مقطع آخر من الأغنيه وأتذكر صديق آخر هاجر فى سن متأخره مما جعل إرتباطه بالبلد الام اكثر عمقاً ، وهامت جوارحه حُباً بما ترك هناك. أتذكر أنه مرض ذات يوم وذهبت لعيادته وكنت تقريباً انا الوحيد الذى زاره خلال مرضه وسائت حالته النفسيه بسبب ذلك . فقال لى أنه اذا عطس أحد فى مصر زارة الشارع بل المدينه بأكملها للإطمئننان عليه ! كان رقيق المشاعر مرهف الحس والشعور دائم الحنين ، ومن اجل ذلك كُتب على تلك الصداقه الموت وعدم الدوام.
لما أتذكر كل هذا اليوم ؟ أين العيون الزجاجيه والقلب الذى يملأه الجليد؟ لعنة الله على حمزه نمره و على من شابهه وإتبع منهجه.

No comments: