عجوز بائع الترمس هذا الذى يقف على كورنيش البحر قريباً من عتبات كازينو الشاطبى – أو تياترو الشاطبى كما كان يسميه الرجل. بلغ من العُمر عتياً، كان قوياً صلباً بقوة تلك الصخره الذى إتخذ منها مُستقراً ومنزلاً لعرض بضاعته المتواضعه.ترك الزمن على قسمات وجهه علامات ودلالات قديمه بقدم صُحف إبراهيم وموسى. تطل أسرار الحكمه من عنينه الثاقبتين ،كسهام مسمومه فى معركة حاميه طرفاها الحق والباطل. لا يعباُ بما يدور من حوله أو هكذا يظنه الجاهل عند النظر إليه. فهو دائماً مشغولاً بسكب المياه على ما تحتوية الصنيه من ترمس حتى يظهر طازجاً نقياً فى عيون الناظرين.
ثمة شئ غامض فى هذا التياترو فهو يمثل لبائع الترمس المستحيل وصعوبة المنال. كان بينه وبين التياترو ماضى وثأئر لم يستطع الرجل تركه والمُضى قُدماً فى حاضره.كان ينظر الى الي التياترو بنظرة الحائر الباحث عن إجابة وملاذ. يُلقى بنظرة الحيرة إلى التياترو وإلى البحر بنظرة المُنشد المُستجير. وكأنه يأخذ ما يمثله له التياترو من حيرة وهموم ويرميها فى ملكوت البحر الفسيح الذى لم يشكو يوماً من هموم الناس أو من كتمان أسرارهم.
يروى بعض الناس بأن بائع الترمس كان فى شبابه زبون مستديم فى التياترو. كان وجيهاً عزيزاً ، ذو مال وسلطان. كان كريماً سخياً يغدق بماله وكرم أخلاقه على من حوله. كان عاشقاً للبحر والليل والطرب والفنون. كان يجلس دائماً على تلك الطاوله المُطله على موجات البحر، يأتى للتياترو عندما تحتضن أضواء القمر الفضيه سطح البحر الساكن ويذهب الرجل مع أول شعاع لاشعة الشمس الذهبيه.
بمجرد وصوله للتياترو يأتى الجرسون بزجاجة بيرة مثلجه من النوع الفاخر وطبقين صغيرين من الترمس. يجلس على مقعده متأملا فى سلطان البحر، يخرج سيجاره أجنبيه من علبة فضيه و يضعها فى مبسمة العاجى الأسود ثم يشعلها بولاعته الذهبيه. يختلط دخان السيجارة مع أصوات كاسات الخمر وزجاجات البيره ويجاضع موجات البحر الزرقاء لخلق سمفونيه منظمه لا يسمع نغماتها غيره. كان صامتاً مثل البحر، ساكناً كحال جبل عتيق لا تزحزحه رياح عاتيه مسها شئ من الغضب. وهكذا، يقضى ثلثه الأول من الليل فى التياترو ، حتى يأتى ميعاد الفترة الفنيه وعند ذلك يحوّل الوجيه إهتمامه من البحر إلى المسرح وعندها يأتى الجرسون بمزيد من البيره وكثيراً من الترمس.
وفى ليلة خريفيه تلألأ في كبدها القمر وملأ نوره السماوات والأرض، جلس صاحب السعاده فى نفس المقعد على طاولته المعهوده منتظراً الفقره الفنيه، حتى إعتلت فتاه جديده خشبت المسرح، والحق أنها لم تعتل خشبة المسرح فحسب وإنما إعتلت وملكت قلوب الحضور من قبل أن تستحوذ على أسماعهم وأبصارهم. كان إسمها سمراء كلون بشرتها الناعمه .غنت الفتاه كلمات جميله لا يتذكر أحداً منها حرفاً واحداً، ولكن الجميع يتذكر البشره الخمريه التى علّمت فيها الشمس وتركت أثراً ظاهراً. لم ينس أحدا النهدين البارزين كعلامات العزه والإنتصار. تذكر كل الناس العينين الواسعتين وتلك الشفاه الغليظه الداكنه التى لها مفعول الخمر فى العقول. تجلّت قُدره الخالق فى قوام ملفوف، فارع كلهب مشتعل لا تقدر على إطفائه أمواج البحر الذى سكن إجلالاً وتقديراً لجمال سمراء.
عشقها صاحب السعاده وشغفته حباً. تقرب منها ولها. أصبحت سمراء بالنسبه له حياة جديده فوق حياته وعُمر مديد يأمل أن يعيشه ويلتهمه إلتهاماً. كان يقول لها مازحاً أنه يعشقها أكثر من عشقه للترمس وأقل قليلاً من البيره التى أمرته بالإقلاع عنها. كانت تشاركه طاولته الخاصه كل ليله بعد اداء الفقره الفنيه ، ينظر الى البحر على يمينه ويهيم فى بحور عينيها على يساره. ظن الرجل أن الجنه قد هبطت الى الأرض وكان نصيبه منها سمراء.
سأم الوجيه عيون الحاسدين والمعجبين من حوله فقررا أن يتواعدا على اللقاء بعيداً عن التياترو، لم ينم الرجل ليلته ، ماذا سيقول لسمراء عندما يجالسها وحده ؟ ترى سيكون جمالها مختلف خارج التياترو عندما ينظر اليها وحده؟ ماذا سترتدى له وحده ؟ إنها لهفة الأشواق وأنانية العشاق. فلا يوجد على الأرض عاشق غير أنانى. ياله من ميعاد بعيد. ذهب الى المكان الموعود والزمان المتفق عليه ولكنها لم تأت! ماذا حدث؟ أين أنت يا سمراء الجنه الموعوده؟ ذهب الوجيه إبن الذوات فى اليوم التالى والثالث والرابع والألف ولكنها لم تفِ بما إتفقا عليه وتعاهدا
عاد الرجل خائب الرجا إلى التياترو يسأل عنها سؤال الملهوف المُستغيث ولكن لم يعرف أحد ما أصابها. لقد إختفت فجأه كحلم قصير لا يدوم ويبقى. لم يذهب الوجيه مرة أخرى للتياترو وإنقطعت أخبارة مثلما إنقطع وإختفى حلمه الأسمر. لا يعرف أحداً ما جرى له هو الآخر ولكنهم رأوه ذات مساء أمام التياترو بعربة الترمس الذى يعشقه. يقضى الليل متأملاً التياترو والبحر عسى أن يجيب أياً منهما على سلواه وموجعته. من أجل ذلك كُتب على صاحب السعاده أن يكون بائعاً للترمس !
No comments:
Post a Comment