! أوّ تَبدُو سَعيدهْ

هدأت .. تغيرت..إرتدت الألوان بعد سواد الحداد. تغيرت الصورة الكرتونيه إلى صورة أخرى بها ألوان وبهجه وتفاصيل. تبدو سعيده فهى تبتسم، تلك الضحكه الطفوليه الصافيه التى تتنزع القلوب. تتوسط جمع ليس بصغير ممن يحبونها حقاً. نفس الصوره التى تلجأ إليها كل مره تنتصر فيها على صدمة قاسيه. لكنها تبدو سعيده وهذا هو المهم. ربما كانت الصورة قديمه من أفراح الماضى.لا يظهر فيها إلا وجهها المدبدب المستطيل ، ينهدل على جبينها خصله من شعرها الأسود الذى أصبح ناعم. لم يكن ناعم من قبل. إذن فقد تغيرت. وجهها يملأ مساحة الصوره مع أجزاء غير واضحه لهؤلاء الذين تتوسطهم. لكنها سعيده أو تبدو سعيده.  وجهها تغير هو الأخر. أصبح أبيض عن ذى قبل. لم تكن يوماً بيضاء. كانت برونزيه بلون طرقات مدينتى و بحر بلادى. ولكنها الآن بيضاء. كيف أصبحت بيضاء؟ إذن فقد تغيرت. ولكنها تبدو سعيده. لا أستطيع أن أتنسم عبيرها من الصوره، ولكنه موجود فى الأجواء كمارد مسحور أو جنىّ لا تراه ولكنه يراك. تتحرك أوراقى وأقلامى عندما أتنسم ذلك النسيم فأعرف بوجودها. أقلب فى الصوره لأرى التاريخ، ولكنى لا أجده. أبحث جاهدا، ساعياً أن أعرف تاريخ هذه الإبتسامه لكنى لأ أجده. أدقق فى الملابس، فى خلفية الصوره فى تلك الأجزاء المقطوعه من هؤلاء الذين يجلسون بجوارها، ولكنى أصل إلى لا شئ سوى أنها سعيده أو تبدو سعيده .

! إنـتــحـار

 (١ )
نفس المقعد . باقى على الإنتحار خطوه.. مسافه .. قـُبله.. قرار..أو جساره. كل شئ فى مكانه. جاهز. جميع الأسلحه فى موضعها . فقط قرار القائد عندما تحل ساعة الصفر ونوعية السلاح المستخدم. رتب أوراقه. كيف سيكون العالم بعد الموت؟ أى عالم؟ لا أحد يرى وجوده وكأنه الهواء. هو مجرد حفنة أنفاس تخرج من صدر حرج ضيق. لن يعبأ أحد بإختفائه. لن يهتم أحد. ربما الخادم العجوز فى ذلك المهقى القديم الذى يجلس عليه؟ ربما صاحبة الصوره المجهوله؟ ربما ماسح الأحذيه. لا، لن يهتم أحد منهم. لن يترك موته فراغ فى حياة أى منهم. كانت حياته فراغ فكيف لموته بأن يكون أي شئ سوي فرأغ آخر وفقاعات هوائيه؟
 (٢ )
مراسم الإنتحار ليست بالبسيطه. هناك طقوس وقواعد. هناك مشاعر لابد من إتباعها حتى تصل إلى الهدف المرجوّ. كيف بالموت أن يكون أكثر تعقيدا من الحياه؟ كيف للنهايه أن تكون أي شئ آخر سوى نهاية؟ لن يتغير الخادم العجوز أو يكف عن سباب الدنيا والنساء، لن تظهر فجأه صاحبة الصوره المجهوله فى أحسن زينه قائله هيت لك، لن يملّ ماسح الأحذيه من الحديث عن آماله فى إمتلاك محل صغير. أحلام  الفقراء مثلهم، فقيره لا قيمة لها.
 (٣ )

نفس المقعد.. سينتظر المساء وسكون الليل حتى تختفى الطيور والفراشات البنفسجيه فلا يزعجها صوت الموت. سينتظر لباس الليل الذى يستر القبح والعيوب. سيكون ليل بارد ذو قمر منتصف غير كامل تغطيه سحابة قادمة من بلاد بعيده لتشهد على جلالة الحدث. ستعود الشمس غداً، ويعود معها الطيور والفراشات. سيكتمل الف قمر وقمر. لن يتغير شئ سوى أحلام الفقراء. 

لَعنكْ اللّه يا أًم إحسانْ

(١)
ده عريس لُقطه يا دكتوره , غنى وإبن حلال ومن عيله! لعنك الله يا إم إحسان فى كل كتاب .. لعنتها فى سرها وجهرها وفى صلاتها وتضرعها، فى صحوها ومنامها .تقف أمام المرآه عاريه تتحسس جسدها الأبيض الفائر وما به من بضاضه . تلاعب شعرها الأسود المبلول كطفله صغيره تلاعب عروستها البلاستيك فى حنان مفقود. بين كل لمسه ولمسه تهبط لعنات أخرى مُقدسه على أم إحسان وذلك العريس الذى أصبح زوج وواقع قبيح. تغلق باب غرفتها من الداخل بمفاتيح وأقفال وكأنها خازن خزائن هارون. تسمع صوته فى الخارج يسعل ويضحك، تتخيل منظره وهو جالس أمام التلفزيون نصف عاري يأكل كل ما يجده أمامه ويدخن بشراهه. لعنك الله يا إم إحسان فى كل كتاب. لماذا لا تصبح هذه المرآه مسحوره بها باب له إتجاه واحد، إتجاه اللاعوده. لماذا لا تطير هذه الغرفه فى كوكب آخر بعيدا عن غرفة المعيشه التى يجلس هو بها. إنه الزوج الباقى، والسند الدائم. إنه العريس اللى ما يتفوتش.
تجلس على مؤخرة السرير ويغطى شعرها الطويل نهديها البارزين فى صمود. تنظر إلى الأرض وتختلط دمعاتها مع إبتسامه ضعيفه كغثاء موجه على وشك الموت. تتذكر كيف أصبح حالها وتحول من الطبيبه، الجميله الذى سجد المستقبل أمام قدميها، إلى مجرد سبب مؤقت إلى بضعة رعشات وبلل دافئ بين فخذيها
 (٢)
لامته هو فقط، هو  من سافر وهجر. هو من فضل اليأس على الأمل. الإستسلام على القتال. الهروب على المواجهه. لامته على ما هى فيه الآن، تعيش على بقايا كلمات وسلامات وذكريات ومواعيد لن تتم. تذكرت كيف كانت لمسة يده الدافئه، كيف كان يضع رأسها على تلك النقطه الخاصه على صدره لتطير فى عالم مرمرى أبيض. كانت تؤمن بأن صدره به شئ من الجنه ووصال من الرحمة وسحابات من السكينه. تذكرت قبضة يده القويه اللاعنيفه على يديها الصغيره وهما فى طريقهما إلى ذلك المكان الخاص على البحر. كان الناس لهم بحر وهما لهما بحر خاص لا يراه أحدا.
جلسا فى نفس المكان، المنضده البسيطه المواجهه لشاطئ البحر. يمتد كبرى خشبى قديم بضعه أمتار داخل المياه ثم يتوقف فى تهالك. فناجين القهوه الفارغه وطفاية السجاير الممتلئه. كوب مياه زجاجى يعكس أشعة الشمس الذهبيه على وجهها الأبيض. جلس صامتا ناظراً الى  البحر وكأنه منتظراً أن تخرج المعجزه من مياهه  الزرقاء. وهى تنظر إليه فى شبق العشاق، ولهفة من أحب فأخلص، وآمن فأعطى. تتحدث إليه عن كل شئ ، تقفز من مقعدها كطفلة صغيره فى مدينة الألعاب المسحوره. وهو صامت فى مكانه منتظر المعجزه. ولكن البحر لم يرسل إليه أى معجزات ، بل بضعة موجات بدأت عنيفه من 
منبعها وماتت قبل أن تصل الي الشاطئ
(٣)
قال بدون مقدمات: أنا مسافر بكره . لم يشرح أو يفسر لم يعطى أعذار وأسباب. لم يعطى أمل أو يترك نقطه مضيئه تعيش
 بها. قالها وبلعه البحر


فسَلام على حسْن، حَرَامي التليفُونْات

(١)
أحمل جعبة ملابسى المتسخه وأذهب الى المغسلة القريبه من المنزل. نفس الروتين المُتبع فى ظهيرة كل يوم أحد. نيويورك، تلك المدينه 
التى بلعت كل اللغات والثقافات والأديان وصهرتهم جميعا وخلقت فى النهايه منتج غريب، بديع لا يوجد فى اى مكان سواها. تجلس فى عربة  المترو فتسمع أكثر من أربع لغات مختلفه وترى القرآن والتوراة والإنجيل جنباً الى جنب دون قتال أو حروب. فى التسعينات حيث كانت شبكة الإنترنت تأخذ خطوات ثابته لليسطره على كل شئ. لا يوجد انتشار واسع للتليفون المحمول بعد ولكن على قارعة كل شارع يوجد تليفون عمومى وكذلك فى مداخل المحلات التجاريه والمتاجر والمطاعم. قلما خلا مكان من تليفون عمومى.
وضعت ملابسى فى المغسله وخرجت، واذا بشاب أسمر الملامح، عربى المظهر - يتحدث فى التليفون الموجود بخارخ المغسله – ينادى على سائلاً اذا كنت مصرى؟ تذكرت هدف مجدى عبد الغنى فى مرمى هولندا وجاوبته بفخر: نعم أنا مصرى.
(٢)
سألنى اذا كنت أريد أن اكلم مصر فى التليفون. نظرت إلى المغسله والوقت المتبقى بها حتى يتم الانتهاء من الغسيل، وأجبته بالموافقه. أعطيته الرقم وقام بضرب عدة أرقام بعده وقبله وها أنا ذا اكلم الأهل فى الإسكندريه الحُره . إختفى الشاب، وتكلمت أنا فى التليفون لبضع دقائق حتى شعرت بالذنب لطول المكالمه ظاننا بأن ان هذا الشخص سوف يدفع فاتورة المكالمه من حسابه وقمت بإعلاق الخط.
فى اليوم التالى وانا فى طريقى الى العمل، وجدت هذا الشاب يتحدث فى نفس التليفون بجوار المغسله. فألقيت عليه السلام وشكرته على كرمة بالأمس. فسألنى إذا كنت أرغب فى عمل أى مكالمه ولكنى شكرته معتذرا بأنى فى طريقى الى العمل . وهنا ساورنى الشك فى هذا الشاب . فالمكالمات الدوليه فى هذا الوقت كانت اسعارها باهظه وهو كل يوم يقضى ساعات يتحدث فى التليفون ويعزم كل من مر بجواره. عرفت بعد ذلك من بعض الأصدقاء بأن هذا الشاب اسمه حسن وانه متخصص فى سرقة خطوط التليفونات الدوليه. وبعشر دولارات تتحدث مع اهلك جميعا ثم الجيران ثم العماره المجاوره وبعد ذلك الشارع كله والحى والمدينه ولاحقاً بإمكان والدتك ان تتصل بأقاربك فى الأقاليم لكى يأتو يتحدثو معك. وبعد أن تنتهى من الحروف والجمل والمعانى والكلمات يصعب عليك أن تغلق الخط من كثرة البُخل وشدة الإستخسار، فتعزم على أى شخص مار بجوارك ان يتحدث هو الأخر.
تطور الموضوع، فوجدت فى يوم ما كرسى بحر وشمسيه بجوار التليفون  لأن الناس أشتكت لحسن من الوقوف لساعات طويله تحت الشمس والمطر! وفى يوم آخر وجدت عربية هوت دوج وسندوتشات فتحت بجوار التليفون.  وفجأه أيضا وجدت شاب صغير يقوم بتنظيم الراغبون فى التحدث وإستخدام الهاتف وحسن جالس تحت الشمسيه يدخن الشيشه وفى يديه مجموعة من الدولارات منظمه ومُرتبه وكأنه منادى فى محطه مصر يقوم بجمع الكارته.
(٣)
نيويورك هى نيويورك بسحرها وشقائها وغناها ومالها وفقرها وعنفوانها وضعفها،  إلا هذا المقطع من المدينه الذى سيطر عليه حسن وأعوانه. أصبح التليفون الحكومى مصدر دخل للعديد من الناس. وأصبح مدينة داخل المدينه، ومجتمع آخر لم يفكر أى منهم نوعية الدخل أذا كان حلال أو حرام ، مباح أو ممنوع. كل هذا لا يهم طالما أن هناك دخل فى نهاية اليوم. تذكرت حسن اليوم، بعد سنوات مرت عندما أخذتنى قدماى إلى مكان التليفون الذى مازال موجود فى مكانه ولكنى لم أجد حسن أو شمسية البحر وعربة الهوت دوج. تسآلت عن حسن وأمضيت وقتاً ليس بالقليل أفكر أين هو الآن وماذا يفعل؟

صُنْدُوْقُ قَمَرِ لِلَّذِكْرَيَاتِ

جمعت قمر ما ملكت من قوه وذهبت إلى غرفة الضيوف الزرقاء فى شقة الزوجيه التى خصصتها للضيوف. الغرفه بها سريرين صغيرين يتوسطهما على الحائط صوره ليوسف إدريس وهو شاب صغير. تحت الصوره مكتبه قديمة فيها كل ما كتب الرجل، فهى تعشق يوسف إدريس وكتاباته. يوجد بالغرفه مكتب صغير به درج مغلق لا يوجد مفتاح له إلا معها هى فقط. داخل هذا الدرج صندوق صغير لا يعلم أحد ما به سوها.
تسللت قمر إلى الغرفه الزرقاء بلون البحر الذى تعشقه برغم عدم نشأتها قرباً منه. وربما كان ذلك سبباً فى حبها له. والحق، أن ما بداخل هذا الصندوق هو سبب عشقها للبحر وألوانه وأهله. فتحت الدرج بهدوء وخفه وكأنها خائفه من عفريت أو جنىّ محبوس فى هذا الدرج أن يخرج منه ويلتهمها
اخرجت الصندوق الصغير ووضعته على ركبتيها بكل حنان وموّده كأم حديثه بعهد الأمومه تداعب مولودها الجديد. أزاحت من على الصندوق تراب وظلم السنين، أراحت ظهرها على الكرسى ورفعت رأسها إلى سقف الغرفه تتأمله وكأنها فى إنتظار مدراراً من السماء على يد ملك بيديه الغيث وما قد زهق وولى
عادت بنظرها إلى الصندوق ورسمت على شفتيها إبتسامة شفقه وعطف. كانت تتحدث لصندوق الذكريات وتشرح له انها ليست السبب فى تسميته بصندوق الذكريات. فإن كان بيديها، فهى حلمت وعاشت حياتها كى تري ما به حى أمامها فى كل لحظه وأنها قد عملت ما بوسعها حتى تصبح الأشياء الموجوده به أرواح تسعى. لم تخطأ يوم ولم يصيبها اليأس فهى حاربت من أجل ما بالصندوق، أحيانا كحبيبه وزوجه وأم وإبنه، وأحيانا كثيره كأسد شرس دافع عن بيته وعرينه من الغُرب والدخلاء .ولكن! دائما هناك  كلمة لكن التى تفصل الحق عن الباطل والواقع عن الخيال. لم يقم هو بمسؤلياته كما يجب وإن كان أبسطها هو الصدق
فتحت قمر الصندوق ورأت ثلاث وردات ذبلو وذهبت بهجتهم. تبسمت وتذكرت كيف إشتراهم لها من فتاة صغيره على كورنيش نيل القاهره بعدما حلفته الفتاه بحياتها. ورأت ايضاً ذلك الخاتم النحاسى الذى إختاره لها فى خان الخليلى وتذكرت كيف أنها رفضت فى لقائهم الذى لم يتم الذهب الأصفر والأحجار الكريمه
لم تستطع قمر تكملة النظر إلى ما بالصندوق. اغلقته بسرعه . وبعزيمه يتملكها غضب، قامت من مقعدها ووضعت الصندوق مكانه القديم. ربما فتحته مره أخرى وكملت ما به من ماضى وذكريات وربما رزقها الله قوة خاصه للتخلص منه ووضعه فى صندوق القمامه - مكانه الطبيعى
قامت قمر إلى مطبخها لإعداد وجبة العذاء لأسرتها السعيده، فاليوم هو يوم الفاصوليا التى يعشقها إبنها الأصغر. تبسمت الأم وتنهدت قائله .. لعنة الله على الذكريات

وَكيفَ حالُ القاهِرةْ بدُونها؟

(١)
حتى البحر، ظهرت عليه آلاء السقوط. أصبح وحيداً مثلى يكابد علامات الشيخوخه محاطاً بمبانى قبيحه. الطريق من ميامى إلى سيدى جابر فى هذا التوقيت من الفجر دائما كان رائع. عندما أمتلك الكورنيش والشاطئ بمفردى. الآن إحساس جديد بأن الحبال القويه التى كانت تربطنى بهذا لشاطئ قد تقطعت وتلاشت .طقوس ليلة السفر لم تتغير، أقوم بقص شعرى فلا أجعله قصير فهى تحبه طويل لأسباب لا يفقهها إلا هى. يكتشف الحلاّق شعره أخرى بيضاء، جديده، طويله قويه قائمه بمفردها فى عناد وتحدى. أتذكر أول مره أكتشف شعرة بيضاء فى شعرى وذهبت مهرولاً إليها بأن العمر قد وليّ ولم يبق منه قدر ما قد فات، إبتسمت نافيه، وقالت كلا: بل هناك أربع شعرات بيضاء وليست شعرة واحده! آمنت لها وإستسلمت فهى تعرف كل شئ، حتى عدد شعرات رأسى ،فهى تعرفها أكثر منى
(٢)
إنتهت التشطيبات والإصلاحات فى محطة سيدى جابر، هى الأخرى تغيرت وأصبحت أجمل. لم أهتم من قبل بجمال الأشياء أو قبحها ولا أدرى ما قيمة شئ جميل يتوسط القبح؟ صوت منادى القطارات الداخلى به ألفه معهوده. لم أقابله ولا أعرف شكله ولكنى أحب أن اسمع صوته عندما ينادى عن قطار الإسكندريه المتجه إلى القاهره القائم من على رصيف 3، أشعر بأنها رسالة خاصة بى وحدى. أشعر بأن هناك قاهرة أخرى يحجّ إليها كل البشر. أما أنا فلى قاهرة  أخرى ، خمريه كحنين الماضى وصدق المبشرين، ناعمه كورقة شجر لمسها ندى الفجريه ،برونزيه كرمال عانقتها الشمس لعقود، سمراء بلون القهر ودعاء المظلومين، بسيطه ،قويه ،ضعيفه، عاقله كالأم، مجنونه كالعاشقه، دافئة تبعث فى نفسى قوة الجيوش وجسارة الفرسان.
(٣)
أجلس على مقعدى متأملاً من الشباك منظر الحقول الخضراء الجميله التى تتناقص مساحتها فى كل زيارة . أرغب فى أن اقفز من القطار إلى تلك المزراع الخضراء وأن أنطلق فيها مدافعا عن قدسيتها التى إنتهكت من الكتل الخرسانيه والطوب الأحمر. كانت المزارع الخضراء دوماً وابدا هى مثال المعجزات والبساطه بالنسبه لى. أرض طينيه، حبوب، شمس ومياه. لمستهم جميعا قدرة الخالق فخرج هذا المنتج البديع. حتى هذا أصبح يتلاشى. وكأن الكتل الخرسانيه أهم من المعجزات ولمسات الخالق السحريه
(٤)
يصل القطار فى سرعة غيرمتفق عليها. ربما شعرت بهذه السرعه اليوم لأنى تمنيت عدم الوصول. كنت أصلى أن يصيب القطار عطل فنى غير قابل للإصلاح يكون سبب فى ألغاء الرحله. وأعود ضاحكاً على نفسى مقتنعا بأنى قد حاولت وشرف المحاوله يكفى. ولكنه وصل في ميعاده بالظبط. أصل إلى مدينة الرماد باحثاً عن النقطه الملونه لكنى لم أجدها. أذهب إلى ذلك المكان الذى كانت تتنظرنى فيه لأجده خالى رغمه زحامة بالبشر، كان ساكن، هادئ، صامت رغم الضوصاء وصفير القطارات. أخذت التاكسى الأبيض كما قد أمرت . فالغريب مثلى لا يأمن غير التاكسى الأبيض ذو العداد. أجلس فى المقعد الخلفى أنظر خارج الشباب إلى بحور البشر. حياة أخرى وعالم أخر. أول مره ألاحظ هذا الزحام. ربما تكون أول مره أنظر من خارج شباك التاكسى. لماذا لم أنظر من الشباك بالماضى؟ لماذا ألاحظ الآن كل هذه التفاصيل؟ الرحلة من محطه مصر إلى الأوتيل لم تستغرق دقائق معددوده.
(٥)
أدخل فى غرفتى لا أفعل أي شئ سوى الجلوس على مؤخرة السرير المنظم.غرفة الفندق الآن مجرد أربعة جدران مؤقته ليست بيتى وليست ملكى .الهواء البارد الناتج عن التكيف ينتصر أخيراً بعد أن كان مهزوما مغلوب على أمره من اللحظه التى تطأ قدميها أرض الغرفه. لمسة واحده من يديها الصغير تحول جبال الثلج إلى شموس ملتهبه. أنظر الى الأشياء المألوفه داخل الغرفه ولكنها بدت غريبه عنى. أنظر الى  النيل من الشرفه فاذا به غاضباً منى يعاملنى بجفاء وكأنه أول مره يرانى. أنام على الجانب الأيمن من السرير، وأترك الجانب الأيسر مرتب منظم أمالاً فى معجزه. فى الثلث الأول من  الليل، نزلت إلى كورنيش النيل، جلست على ذلك المقعد فى نفس المكان. أتت بائعة الفل الصغيره، إبتسمت لها إبتسامة الترجى " ألا تعرفينينى؟ أنا من إشتريت منك ثلاث وردات بالماضى". تجاهلتنى هى الأخرى نفس تجاهل النيل وجدران الغرفه. أذهب الى محل السمك .. الكشرى .. هذه القهوه البسيطه فى شارع القصر العينى .. الكافيه الآخر فى التحرير .. الأوبرا ..النادى الأهلى ..خان الخليلى ... محطة المترو.. تجاهلنى الجميع وكأنى نسياً منسيا
(٦)
بحلول الثلث الأخير من الليل أصبحت أسمع أصوات قادمة من أضرحة المشايخ وأهل البيت ومكتوبه على رسائل المحبين تأمرنى بأن أعود من حيث أتيت. فهذه هى القاهرة بدونها.وعدت وحيداً كفرع يابس تتخطفه الرياح.



شريعة أم سعد

(١)
تجلس أم سعد بائعة الجرائد فى نفس مُقعدها على كورنيش البحر، تضع بضع من الأحجار الصغيره على الجرائد  حتى لا تطير من على قفص الخضار - الذى أصبح هو مصدر رزقها الوحيد. تتطلع المانشيتات العريضه التى لا تفقه منها سوي ألوانها الحمراء والسوداء وحجم الخط العريض. لم تنم المرأه لأيام، فبالها مشغول حقاً بنصرة الشريعه وقهر العلمانيه وتحرير البلاد من الكفار. أم سعد تعلم جيدا أصول الشريعه وتعاريف الليبراليه والعلمانيه والإشتراكيه والإقتصاد الإسلامى. أراها تحلل المسوده الأولى للدستور وتنفطر حسرة على عدم وجود مواد خاصه بختان النساء والمثليه الجنسيه وهدم الأهرامات والآصنام. تجلس أم سعد مع نظرائها من باعة الجرائد والفجل والسمن البلدى على مزلقان القطار فى سيدى بشر قبلى ويتناقشن فى همة ونشاط سن الزواج للأطفال وإذا كانت البنت هتستحمل ولا لأ
(٢)
يدخل عم عبده الخولعى بائع الشاى فى محطة القطار ويلتقط أطراف الحديث منهن صارخا من أعماق قلبه العجوز، بشرة خير .. بشرة خير، كبشرى يعقوب بيوسف وفرحة زكريا بيحيى، يشرح عم عبده أسباب فرحته وبهجته بأن شلبى الصياد، إكتشف بروكسى للتحايل على حجب مواقع البورنو. فلا داعى للقلق
هكذا إنشغل العامه من أهلى وعشيرتى بما هو مهم بالنسبة لهم: نصرة شرع الله .. لم تهتم أم سعد بولدها المعاق سعد ولا بقرار المحافظ من 15 سنه بتوفير كشك صغير بدلا من قفص الخضار، لم يهتم عم عبده الخولعى بما يعانيه من أمراض عجز عن تعريفيها .. كل هذه أشياءثانويه لا قيمة الله..

جَلَالّة المَكانْ الهـَادِئ

قطار قديم، متهالك يشق طريقه على قضبان صدأه معوّجه. صوت الماكينات يخلق ضوضاء عنيفه لا تليق بجلالة المكان الهادئ. إغتصبت القضبان  الحديديه مساحة غير بسيطه من المزارع الخضراء. تهتز الأرض الطينيه عندما تسمع صفير القطار القبيح  وترتعش رعشات متتاليه  كعذراء بكر ليلة زفافها. تهجر الطيور الضعيفه أغصانها فى غضب يظهر من أصوات ضربات أجنجتها. عندها فقط ..يتوقف ذلك الرجل عن عزف الناي
يتكرر نفس المشهد كل بضع ساعات ..لا كلام ..لا حروف ..لا إشارات.. صفير القطار القبيح ..صفير الناى الحزين .. وصوت أجنحة الطيور الغاضبه وحفنة من أوراق الأشجار الجافه التى تلهث وراء القطار


!رَسائلْ قَديمه

رساله رقم واحد
من أم

،أما بعد
فليس لى من العلم ما قد قُسم لك. ولم أنهل من بحور الكُتب قدر ما إستطعت أنت. وليس لى من الفنون والآداب ما تمثل فى حديثك وجوارحك. فلقد حملتك وهن على وهن وكان لى من المشقه ما كان. لم أشكو من المخاض وآلامه ولم أقنط عليك من محبة أو رحمة. فأنت الوليد والولد والوريث كما نعتك والدك. ولن أنسى فرحته يوم ميلادك والمستقبل كله تجسد عند بكائك الأول عندما قال بكل فخر : أهلا بالطبيب!
ربما أزعجتك رعشة يدى فى خطوط هذه الرساله. ربما رأيت أفكار غير مُرتبه وحروف متضاربه وغير مُركبه. ربما رأيت الحبر عبرات. ربما رأيت سواد ثيابى فى هذه الأوراق. ربما ..ربما ..ربما. ولا يعنينى أى من هذا فأنا أمك ولى حق عليك وأعلم أكثر منك. نعم أبتسم عندما أتذكر هذه الجمله " أنا أمك وأعلم أكثر منك" عندما كنت مريضا وأنا أطلب منك أن تشرب الليمون بكثره. وأنت ترفض مازحاً بحجه أنك طبيب وتعرف من الطب أكثر منى. فنتشاجر شجار المحب لحبيبه والخل لخليله والأم لولدها
أشتاق إلى ذلك الشجار وإلى نظرة عينيك الصافيه الساخره وهى تقول لى سأشرب الليمون ولتذهب شهادة الطب الى الجحيم. أشتاق إلى تلك النظره التى كانت تتوسل إلى و تترجانى بالإطمئنان عندما كنت تنزل إلى المظاهرات راجياً الخير لجيلك. أشتاق إلى قلقى عليك حتى تعود. أشتاق إلى الساعات والدقائق البطيئه التى كانت تقتلنى فى اليوم الواحد أكثر من الف مره حتى أسمع صوت المفتاح، وعندها أتظاهر بالنعاس وعدم الإهتمام. أعلم أن كل هذه المشاعر لن تعود، بل أعلم أن العديد من مظاهر الحياة قد رحلت يوم رحلت أنت وصحبتك. ولكنى أؤمن إيماناً خاصا، بالرغم من أنك لن تستطع قراءه هذه الحروف المكتوبه، فإنك قادر على إستيعاب رعشات قلب الأم الذى قتله الفراق..

أخيراً ..لك من قلبى خير الدعاء وأطهره ..
أمك التى تعلم أكثر منك

*** 
رساله رقم إثنين
 من غريب 

إلى وطنى وإن عجز الكلم عن تعريفه،
إلى تلك الحدود البعيده، إلى هذه الارض العجوز، إلى ذلك المكان القديم، إلى تلك الحاله التى أصبحت لا حاله. إلى مدينتى الصغيره، وشارعى الضيق، ومنزلى الفسيح. أكتب إليك عنك وأشكو منك إليك وأهرول إلى حضنك هاربا من بطشك. لن أكون أبلغ من من كتب فى حبك أشعار و أغانى، وخلق من النغمات موسيقى والحان. لن أكون أقوى من هؤلاء الذين مهما سجنو أقسموا بحريتك، ومهما ظلموا اقسموا بعدلك، ومها دفنو فى الظلام أقسمو بشمس نهارك. لن أكون أى منهم، فأنا أبسط من هؤلاء. أنا الإنسان البسيط سجين الكلمات. أنا من تركت شمسك على ملامحى السمراء آيات وآلاء الكرم رغم ضيق ذات اليد. أنا من قال فى السرّاء يارب وفى الضرّاء يارب وحين البأس يارب. ليس لك عندى سوى تلك النقطه البيضاء التى أبت أن تتحول إلى السواد وسخرت من ديمقراطيه هذا القلب المُتقلب. ليس لك عندى سوى إيمانى بك رغم كُفرك بى، تمسكى بك رغم بخث ثمنى فى ميزانك.
أكتب إليك اليوم مجاهراً مطالبا بما لى عندك من نهر وهرم وبحر وأب وأم وأخت وأخ وحبيبه من أيام الصبا الورديه. أكتب إليك طالبا دليل إستخدام وكاتالوج لعلىّ أبلغ الأسباب وأصل لمفاتيح أسرارك . أكتب إليك سأئلاً الحياه ليس حباً فيها ولكن لأن الموت أصبح هو الأخر له عادات وتقاليد وطقوس شاقه. فماذا أنت بقائل ؟

مع خالص حبى وأرق أمنياتى،
مهــاجر بداخل شوارعك