عطارة الدكتور مصطفى محمود في الدين والفلسفة والطب

مصطفى محمود بين الماركسية والاسلام - عطارة الفكر





بعد أن نشر الدكتور مصطفى محمود كتابه ( الماركسية والإسلام) والذي لاقى رواجًا كبيرًا، كتب الدكتور فؤاد زكريا الفصل التالي ردًا على ما كتب الدكتور مصطفى محمود. 

(من المؤكد أن الدكتور مصطفي محمود انسان سعيد الحظ، فهو، بوصفه كاتبا ومفكرا، قد اكتسب شعبية واسعة أتاحت لكتبه أن تكون من أوسع الكتب انتشاراً على مستوى العالم العربي كله

وهو في شعبيته هذه يتخذ امام الجماهير الواسعة مظهر المفسر الديني، والحكيم الفيلسوف، والعالم المطلع. صحيح أنه، في مجال التفسير، لا يرضي معظم رجال الدين المتخصصين، سواء منهم أصحاب وجهة النظر المحافظة أو المتحررة، وأنه في مجال الفلسفة هنا ويسهل على أي مشتغل في هذا الميدان أن يكتشف نقص معلوماته وضعف منطقه، وأنه في ميدان العلم قد توقف على ما يبدو عند السنوات الأولى من فترة دراسته الطبية، مضافا إليها قراءات سريعة لكتب مفرطة في التبسيط

أي أنه بالاختصار لا يرضي المتخصصين في أي ميدان من هذه الميادين الثلاثة. ولكن فيم يهم رضاء المتخصصين إذا كانت الجماهير الواسعة قد أصدرت حكمها لصالحه، تتخذ منه مصدرها الأوثق، وربما الأوحد، في فهم حقائق الفلسفة والدين والعلم؟

إن القارئ المتدين ينبهر حين يقرأ لدى الدكتور مصطفى محمود تفسيرا دينيا مطعما بعبارات فلسفية ومصطلحات علمية. والقارئ الباحث عن حكمة ينبهر حين تقدّم إليه الفلسفة في إطار ديني وعلمي. والقارئ الذي يستهدف حقائق العلم ينبهر حين تعرض عليه هذه الحقائق مرصعة بحكم ومؤيدة بنصوص دينية. وهكذا يقدم الدكتور مصطفى محمود إلى قرائه خلطة فكرية ترضي جميع الأذواق.

وآخر ما طلعت به علينا “عطارة الفكر” هذه هو كتاب عن (الماركسية والإسلام).. ظل فترة طويلة يحتل المكانة الأولى بين الكتب الأوسع انتشارا في القوائم التي تنشرها صحف هللت لهذا الكتاب وتلقفت ظهوره بالترحيب وزُینت صفحاتها مرارا بمتقطفات منه. وأنا لا أشك لحظة واحدة في أن هذا الانتشار الواسع حقيقة مؤكدة، ولكن هل يعبر هذا الانتشار عن قيمة حقيقية الكتاب، أم أنه من نوع انتشار فيلم “بمبة كشر “على “حساب المومياء” او انتشار روايات أجاثا كريستي: البوليسية بالقياس إلى روائع شيكسبير؟ هذا ما سأحاول الاجابة عنه في السطور القادمة 

من كلمة للدكتور مصطفى محمود نفسه ستكون نقطة بدايتي. انه يقول: (لم يكن ضعفا في القرآن أنه لم يحدد منهجا سياسيا، ولم يرسم دستورا محددا وإنما كان ذلك أحد أدلة قوته واعجازه. فقد أراد الله أن يفتح سبيل الاجتهاد والأخذ بالعلوم واستنباط المناهج والأحكام من الظروف المتغيرة دون تكبيل بمنهج سماوي جامد محدد، واكتفى القرآن في موضوع السياسة والحكم بإصدار. توصيات عامة لها صفة الأزلية وعدم التغير عبر العصور، وقال ان هذه التوصيات يكون بها الحكم مثاليا: (ص ۱۸)

هذا ما قاله الدكتور مصطفى محمود في فقرة اقتبستها كاملة حتى لا يقال قد اقتطعت أقواله من سياقها، ومن هذه الفقرة أود أن أبدأ مناقشتي لكتابه، وهي كما سيرى القارئ مناقشة مستمدة من منطق الكتاب نفسه، فلست أود أن أقدم إلى القارئ رأيا خاصاً لي في الموضوع، وإنما تنحصر مهمتي في كشف ما قد يكون في الكتاب من جوانب التناقض والضعف.

إن أي كاتب يذهب إلى أن القرآن لم يحدد منجها سياسيا ولم يرسم دستورا محددا، يقف معارضا لرأي آخر يؤكد أصحابه - وهم في بلا كثيرون - أن في القرآن دستورا مفصلا، ومنهجا سليما كاملا، ومذهباً اقتصاديا شاملا، وأنا لا أود أن أفاضل بين الرأيين، وإنما رأيت أن أسجل، في البدء، معارضة الدكتور مصطفى محمود لهذا الأخير والحيازة إلى القائلين بأن النص الديني يحتوي على مبادى، عامة على حين أن تفاصيل أمور الدنيا والسياسة والاقتصاد متروكة لاجتهاد البشر

ويترتب على ما يقوله المؤلف في الفقرة السابقة نتيجة لا مفر منها: وهي أن تفاصيل الأحكام الدينية نسبية الطابع، وأن ما هو أزلي هو المبادئ العامة فقط، وأن من الضروري أن تتغير تلك التفاصيل بتغير العصور والبيئات، مع الاحتفاظ بالإطار الذي تشكله المبادئ العامة. وهذا ما جعل الكاتب يؤكد اهمية “الاجتهاد والأخذ بالعلوم واستنباط المناهج والأحكام من الظروف المتغيرة"، بل انه حمل على الفكرة القائلة بثبات الأحكام السماوية في الأمور التفصيلية حملة قاسية، تجلت في استخدامه عبارات شديدة اللهجة.. مثل وصف المنهج السماوي الثابت بأنه “جامد”. ووصف التقيد بتفاصيله بأنه “تكبيل”.

هذا هو رأي الدكتور مصطفى محمود نفسه، لم أرد عليه أو أنقص منه شيئاً. ولكن مثل هذا الرأي لا بد أن يثير سؤالا هو: إذا كانت الأحكام الدينية تقتصر على العموميات، وتترك التفاصيل والجزئيات لاجتهاد العقل البشري وفقا لظروف الانسان المتغيرة، فمن أي مصدر تستمد هذه التفاصيل؟ لا بد أن يكون ذلك من مصدر دنيوي، ولا بد أن يملأ الناس ذلك الإطار العام الذي تحدده الأحكام الدينية بمضمون أو محتوى من واقع حياتهم المتغيرة، ومستلهم من فكر إنساني واجتهاد بشري.


وبعبارة أخرى فان نص كلام الدكتور مصطفى محمود نفسه يؤدي إلى القبول بأن العقيدة الدينية.. من حيث هي مصدر التشريع الاجتماعي لیست مكتفية بذاتها بل هي في حاجة مستمرة إلى مذهب إنساني يكملها ويملأ ما تتركه من فراغات. وهذه نتيجة ثانية لا مفر منها تترتب على كلام المؤلف

فإذا كانت الماركسية لا ترضي الدكتور مصطفى محمود كمذهب اجتماعي سياسي، وإذا كان الاسلام، كما يؤدي اليه كلامه، في حاجة إلى تكملة بشرية نملأ بها التفاصيل التي لا ينبغي للنص الديني أن يشغل نفسه بها.. فمن أين نأتي بهذه التكملة؟ وما هو المذهب الذي نستطيع، وفقا له، أن نستنبط الجزئيات التي لا ينبغي أن (يكبلنا) فيها (منهج سماوي جامد محدد)؟ هذا ما لم يجب عنه مؤلف الكتاب، بل ترك في تلك المسألة الحيوية فراغا ضخما، لا يدري القارئ كيف يملأه، ولا في أية وجهة يسير او باي مذهب يسترشد، إذا شاء أن ينظم شؤون حياته جملة وتفصيلاً

 ولقد أفاض الدكتور مصطفى محمود في نقد الماركسية وصوب اليها كل ما يملك من أسلحته الهجومية.. واستخدم في وصفها أقوى الألفاظ تعبيرا الكراهية.. وإذا كان ذلك رأيه في الماركسية فان احدا لن يستطيع أن ينكر عليه حقه في مهاجمتها، بشرط ألا يتناقض مع نفسه في هذا الهجوم، وإلا يرتكب أخطاء فادحة في فهم ذلك المذهب. ولكني أزعم، بعد قراءتي للكتاب الذي اكتسح الأسواق العربية، أن مؤلفه وقع في تناقض شديد من جهة ، وأساء فهم الماركسية بطريقة مؤسفة من جهة أخرى

 ولتبدأ أولا بالتناقض

ففي الوقت الذي يصب الدكتور مصطفي محمود نقمته على المذهب الماركسي في جميع جوانبه، نراه يبذل جهدا مضنيا لكي يثبت أن الإسلام يتضمن كل المبادئ التي يدعو إليها الماركسيون. ولنستمع إليه وهو يقول:

 (ولو نظرتنا إلى الاسلام لوجدنا فيه نبعا من الأفكار والحقائق تسبق النظامين تقدها ومعاصرة.. ولوجدنا كل ما حسبناه جديدا في الاشتراكية العلمية هو أمر قديم قدم ثلاثة عشر قرنا في الاسلام فقد جاء الاسلام من البداية مقررا مبدأ المساواة في الفرص، وضمان حد الكفاية للفرد وتحقيق التوازن بين حرية الفرد في الربح وحقوق المجتمع، ومبدأ الملكية الخاصة والملكية العامة (القطاع العام والقطاع الخاص) ، ومبدأ تدخل الدولة في الاقتصاد، وهو ما تسمية اليوم بالاقتصاد الموجه ، ومبدأ مصادرة أموال المستغلين لصالح الفقراء والمظلومين). (ص ٦٧)

ثم يعدد الدكتور مصطفى محمود ما يتضمنه الاسلام من مبادئ نظن في عصرنا الحاضر أنها من ابتداع الاشتراكية العلمية: فالإسلام لا يسمح بالطبقية، والاسلام يرفض التفاوت الفاحش في الثروات، وثروة الغني لا تكون مشروعة إذا كان في المجتمع فقير واحد لا يجد القوت، بل ان الاسلام، في رأي الكاتب، قد عرف المنطق الجدلي أو الديالكتيكي واستخـدمـه (ص ٧ - ٧١)

كل هذا كلام جميل. ولكن ألم يفكر الدكتور مصطفى محمود أبدا فيما.. يؤدي إليه كلامه هذا؟ انه يجعل جملته الضارية على الماركسية أمراً لا معنى له بل أمراً متناقضاً مع ايمانه الديني الذي يتدفق على صفحات كتبه ومقالاته، ذلك لأنه إذا كان الإسلام قد تضمن كل هذه المبادئ، التي دعت إليها الماركسية بعده بزمان طويل، فلا معنى للحملة على الماركسية ووصفها بأقبح الصفات، بل إن. أقصى ما يمكن أن تتهم به في هذه الحالة هو أنها ليست مذهباً جديداً كما تتصوره: وإنما سبقها الإسلام في كثير من مبادئها الأساسية. وهذه كما نرى - هفوة لا تستحق أقذع الشتائم.

بل إنه إذا صح ما يقوله الدكتور مصطفى محمود فإن مهاجمته الماركسية تصبح مظهرا من مظاهر ضعف الإيمان وتزعزع العقيدة، إذ أن المذهب الذي يتضمن كثيرا من المبادئ الدينية السامية لا يصح أن يهاجم، بل أن من

الواجب - عند أي متدين سليم العقيدة - أن يشفع للماركسية وجود هذه المبادئ، فيها، لأنها اتفقت مع الاسلام في نقاط أساسية، ثم اختلفت معه بعد ذلك في نقاط أخرى. وما دام الكاتب قد أثبت أن القضايا الرئيسية في الماركسية قد سبق أن دعا إليها الإسلام، فإن هذا وحده كان لأن يبعث في نفسه احتراما لها ما دامت قد اقتربت إلى هذا الحد من عقيدته التي يؤمن بها من أعماق قلبه


ولننتقل في المناقشة خطوة أخرى، ونتساءل: أكان من الممكن للدكتور مصطفى محمود أو أي كاتب آخر يسلك هذا الطريق أن يكتشف في الاسلام إلى مبادئ مثل: عدم السماح بالتفاوت الطبقي، أو تدخل الدولة في الاقتصاد، لو لم يكن ماركس نفسه، وغيره من المفكرين الذين دعوا إلى هذه المبادئ. قد. ظهروا بالفعل؟ لقد اهتدى اليها الدكتور مصطفى محمود وبأثر رجعي وبدا له أنها كانت موجودة هناك.. في انتظار من يكتشفها. غير أن وقت اكتشافها لم يحن إلا بعد أن توصل اليها مفكر عادي من عباد الله الفقراء أمثالي وأمثالك، وعندئذ فقط وجدها الدكتور مصطفى محمود وأمثاله من الكتاب في النص الديني. والدليل على ذلك أن احدا لم يتحدث عن الاشتراكية في الاسلام

إلا بعد أن ظهرت الاشتراكية بالفعل، وبالطريقة العادية، كما أن النص الديني، في المجتمعات الاسلامية التي تكره الاشتراكية لأسباب ودنيوية) خالصة، لا يفسر أبدا على أنه يحمل معنى الغاء الطبقات أو مصادرة أموال الاغنياء لصالح الفقراء أو تدخل الدولة وتوجيهها للاقتصاد

 إننا لا نقول جديدا إذا ذهبنا إلى أن كل عصر «يقرأ النص الديني بروح مختلفة مستمدة من ظروفه ومن المرحلة التي وصل اليها تطوره. ولو كان النص الديني قد أودع كل شيء، من ماضي البشر وحاضرهم ومستقبلهم، لما عاد البشر في حاجة إلى جهد أو فكر أو علم، واكتفوا بقراءة النص وتطبيقه حرفيا. ولذلك فان الاعتقاد بوجود كل ما يحتاج إليه الانسان حاضرا ومستقبلا في النص الديني معناه قعود الانسان عن الحركة وعن التطور والتطلع إلى المستقبل.

وأنا في هذه النقطة اتفق كل الاتفاق مع ما قاله الدكتور مصطفى محمود في أول فقرة اقتبستها من كتابه في هذا المقال.. ولكن الذي أؤكده، واختلف فيه معه ومع أصحاب المحاولات الكثيرة التي تسير في هذا الطريق نفسه هو أنه، ما دامت الحكمة الالهية قد أرادت من النص الديني أن يكون حافزا للإنسان إلى العمل وإلى المزيد من الارتقاء، فان الاجتهاد البشري في كل عصر من العصور هو الذي يمكن الانسان من أن يهتدي إلى معان متغيرة ومتطورة في النص الديني الواحد، ومن ثم فان وجود النص لا يحول دون سير البشر في تفكيرهم سيرا مستقلا. وبالاختصار فان الدكتور مصطفى محمود يستحق الثناء على الجهد الذي بذله، والذي سبق أن بذله عشرات غيره، لكي يهتدي النص الديني إلى مبادئ أساسية في الاشتراكية، ولكنه لا هو ولا غيره كان يتمكن من تفسير هذا النصر بطريقة اشتراكية لو لم تكن الاشتراكية قد ظهرت بالفعل في مكان ما من العالم، وعلى يد انسان عادي مثلي ومثلك

وأخيراً، أصل إلى الملاحظة التي ربما كانت أهم ما استلفتت نظري في هذا الكتاب، وهي هبوط المستوى الذي نوقش به موضوع الماركسية، وترديد المؤلف المجموعة من الكليشيهات المحفوظة التي لا تليق بأي باحث يريد أن يتعمق في الموضوع. وهنا أصل إلى النقد الثاني الذي كنت قد أشرت إليه من قبل، وهو سوء فهم الماركسية، بعد أن فرغت من الكلام عن النقد الأول وهو التناقض في معالجة الموضوع.

ففي الكتابات السوقية عن الماركسية، شاع القول بأنها مذهب يجعل الإنسان عبدا للمادة، وشاع انتقادها بالقول ان في الانسان ما هو أسمى من المادة، وأنه لا يحيا بالخبز وحده وإن الفكر الماركسي لا يعترف إلا بالماديات، ويُسقط من حسابه كل العوامل الروحية القيم الخلقية والمبادئ المعنوية. والقائلون بهذا التفسير المبتذل إما أناس يرددون ما سبق أن قرأوه في كتب رخيصة، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث في الموضوع بطريقـــة علمية، وإما أناس لهم مصلحة في هذا التشويه. ومن المؤسف أن الدكتور مصطفى محمود قد انساق في كتاباته وراء هذا الاتجاه ولم يحاول أن يتعمق بحث هذا الموضوع الحيوي، بل ان من المستبعد أن يكون قد قرأ مرجعاً أصليا واحدا. في الماركسية، لأنه لو كان قد فعل لما امتلأ كتابه بتلك الأحكام المتسرعة التي تتردد على السن السذج أو أصحاب الاغراض

وكما قلت من قبل، فان من حق المؤلف أن ينقد الماركسية كما يشاء ولكن إذا لم يكن هذا النقد مبنيا على دراسة متعمقة فانه يتحول إلى سلاح يرتد إليه ليصيبه هو ذاته. وكم في بلاد الغرب من نقاد للماركسية ينصبونها أشد العداء، ولكنهم يناقشونها على مستوى متعمق يدعو إلى الاحترام. أما قصة الماركسية وراء الماديات فلم يعد أحد يرددها إلا في البلاد المتخلفة، ولم تعد توجه إلا إلى الشعوب ذات المستوى الثقافي الهابط، والتي أمل الا نكون من بينها

فماركس.. في نظر الدكتور مصطفى محمود يقول: (ببهيمية التاريخ).. (ص) (۳۰)، وفي المجتمعات الاشتراكية و لا يفهمون أن الانسان ليس مجرد بطن وغرائز» (ص ٧٤) ، كما أن خطأ الفكر المادي أنه تصور أن ثلاث وجبات دسمة ومصروف يد وكساء ودواء يمكن أن تكون عزاء كافيا لأنسان يعلم أنه ولد ليموت، (ص ١١ ) .

وفي كل صفحة من صفحات الكتاب يردد المؤلف الخلط الشائع بين لفظ المادية، الذي يطلقه ماركس وانجلز على مذهبهما في الفلسفة والمجتمع والتاريخ، وبين السعي إلى الماديات والانقياد إلى الحياة البهيمية والحرص على اشباع البطن والغرائز

ومع اعترافي بامكان انتقاد الماركسية في نواح كثيرة، فان هذا النقد بالذات أبعد ما يكون عن روح الماركسية، بل ان الماركسية لم تظهر أصلاً إلا تحارب السعي وراء الكسب والمال، ولم تكن لها من قوة دافعة سوى مهاجمة الجشع الرأسمالي الذي أحال الانسان إلى حيوان يقتنص اللقمة من فم اخيه. ولا يوجد تشويه أبعد عن الحقيقة من استغلال اسم “المادية” الذي أطلقته الماركسية على نفسها، من أجل نشر الاعتقاد بأن الماركسية تدعو الإنسان إلى الجري اللاهث وراء المادة، لأن هذا بالضبط ما تعيبه الماركسية على الرأسمالية.. وهو الذي جعل الماركسية تسعى إلى القضاء على النظام الرأسمالي واحلال نظام اشتراكي أكثر انسانية محله

ما رأيك، يا دكتور مصطفى محمود، في العبارة الآتية: (الانسان يصبح ثريا بقدر ما يكون، لا بقدر ما يملك)؟ أتدري من قائلها؟ انه كارل، وفي كتابيه الأكبر «رأس المال ... وما رأيك في العبارة الآتية، التي تصف حالة العامل في المجتمع الرأسمالي: (إن العامل في عمله لا يؤكد ذاته بل ينفيها ولا يشعر بالرضا بل بالتعاسة، ولا ينمي بحرية قدراته الجسمية والذهنية بل يدمر جسمه ويدمر ذهنه.. ونتيجة لذلك فإن الانسان لا يعود يشعر بأنه يسلك بحرية إلا في وظائفه الحيوانية.. أي في الأكل والشرب والتناسل. أما في وظائفه الانسانية (أي العمل والانتاج) فإنه لا يشعر إلا بأنه حيوان. فما هو حيوان يغدو انسانياً.. وما هو إنسان يغدو حيوانياً) أتدري من قال ذلك؟ إنه کارل ماركس في المخطوطات الفلسفية والاقتصادية

هل سمعت عن نقد ماركس لفكرة الربح في النظام الرأسمالي، وهل تعلم أن أول ما تدافع به الرأسمالية عن نفسها في عالم اليوم هو أن دافع الربح (أي الكسب المادي) أساسي لدى الانسان؟ اني لا أود أن ادافع أو أهاجم. ولكني فقط أقرر حقيقة عامة: هي أن الماركسية لم تظهر أصلاً إلا لمحاربة مبدأ الربح المادي ، بوصفه حافزا لعمل الانسان ، في النظام الرأسمالي

هل سمعت عن تحليل ماركس لفكرة «التشيؤ؟ في هذا التحليل يقول ماركس ان الانسان قد أصبح، في النظام الرأسمالي (شيئاً) يباع ويشتري ويعلو ثمنه وينخفض في سوق العرض والطلب، وانعكس ذلك حتى على الانفعالات والعواطف البشرية بدورها أشبه بالسلع التي تعرض في السوق، واصبحت مبتذلة ، يغلفها الجشع وتتحكم فيها الأغراض والمنافع . هذه الظاهرة جزءاً كبيراً من كتاب ماركس الرئيسي، فهلا تعتقد كان من واجبك أن تقرأ شيئاً من ذلك قبل أن تنشر بين الناس كتاباً عن الماركسية؟ وإذا كنت قد قرأت، فكيف أبحت لنفسك أن تردد الأحكام المبتذلة عن دعوة الماركسية في إشباع البطون وملء الجيوب، في الوقت الذي أمتلأت فيه كتابات ماركس بالدعوة إلى استرداد إنسانية الانسان، وتخليصه من تحكم عوامل السوق التي تمتهن كرامته وتحول بينه وبين تحقيق ذاته ؟ 

إن التفسيرات السوقية الشائعة مبنية على فهم سطحي لتعبيرات مثل المادية الجدلية و المادية التاريخية، والتفسير الاقتصادي للتاريخ،. ولكن هذا التفسير الاقتصادي للتاريخ له حدوده التي لا يعرفها أصحاب هذه التفسيرات. فالتاريخ، عند ماركس ظل حتى اليوم تاريخا “طبقياً” وفي مثل هذا التاريخ لا بد أن تكون العوامل الاقتصادية والمادية هي البشر. ولكن عندما يتجاوز الانسان المرحلة الطبقية، ويبدأ التاريخ الحقيقي: الذي يتم في القضاء على كل مظاهر استغلال الانسان للانسان ،فعندئذ لا يعود هناك مجال لتفسير الظواهر الانسانية تفسيرا ماديا ، لأن الانسان سيكون قد تغلب على سيطرة العوامل المادية وأصبح هدفه هو الارتقاء بملكاته وقدراته الانسانية ، وفي عهد كهذا لن يعود للتاريخ المادي أي معنى

إن واجب الكاتب الأمين نحو قرائه الذين يولونه ثقتهم، ويتخذون منه مرجعا في الأمور التي لا يمكن أن يطلعوا عليها بأنفسهم، هو أن يصدقهم القول ويتحمل عنهم عبء البحث والتنقيب، ولا يستغل حاجتهم إلى المعرفة من أجل فرض أراء ناقصة أو مشوهة ، أو من أجل المسارعة إلى كتابة أي شيء يخطر على البال ، اعتمادا على أن المطابع في الانتظار ، والقارئ مضمون .

هذا واجبك يا دكتور مصطفى محمود بوصفك كاتبا، وبوصفك مثقفا وبوصفك مسلما: أن تصدق قراءك الكلمة، وتنقلها إليهم أمينة من مصادرها الحقيقية ، وبعد ذلك فلتنقد الماركسية كما تشاء ، ما دمت قد اطلعت عليها بالقدر الذي يكفيك لكي تعبر عن آرائها تعبيرا صادقا

وأخيراً، فان لدي امنية أطمع في أن تحققها لي، ولقرائك الكثيرين، هي أن تؤلف يوما ما (وخير البر عاجله كتاباً عن: الرأسمالية والإسلام) حتى تكتمل لدى القاري صورتك بوصفك مفكرا يناصر الاسلام وحده ، لا هذا المذهب أو ذاك . وسأكون في انتظار كتابك هذا بشوق بالغ، وكل ما أرجوه، في هذه الحالة بدورها، هو أن تعطي الفكر الرأسمالي فرصة كاملة لكي يعبر عن نفسه من خلال مصادره الأصلية، حتى لا يتهمك أحد بانك ظلمت الرأسمالية كما ظلمت الماركسية!)



No comments: